رئيس التحرير
عصام كامل

تبا لنا كم تغيرنا!


تبقى دراسة العوارض الاجتماعية التي تطرأ على المجتمعات التي تمر بفترات قلاقل واضطرابات جوهرية، بشرية سياسية أو طبيعية كارثية، أو خرجت منها لتوها، من الأمور التي تستحق الرصد والتحليل لخطورة عواقبها اليومية.


وليس يخفى على القارئ المتابع لنا من فوق منصة "فيتو"، أننا نتابع بالرصد والتحليل والذهول.. كثيرا من العوارض الاجتماعية التي نشاهدها بعين الدهشة من وقت لآخر في سلوكيات، بل وفى أقوال المصريين. ونقول عوارض، وليس ظواهر، لأن الظواهر هو تواتر واستقرار وترابط في الظاهرات، واستمرار سلوك معين في المجتمع، يصبح من الظواهر المميزة له.

الظاهرة الاجتماعية إذن مستمرة ومستقرة ومتداخلة ومكتسبة.. أما العارض فمرتبط بأسباب الحدوث.. والأسباب كلنا نعرفها ونعيشها.. فقد مرت البلاد بمؤامرة في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، قضت عليها ثورة وطنية عظيمة في الثلاثين من يونيو٢٠١٣، واكبها ولمدة عامين موجات متصلة من الإرهاب والترويع، ولا تزال له آثار..

تلاها تحول اقتصادى قاس أشبه بجراحة استئصال لعادة الاتكال على الدولة، وفى كل ذلك كان المواطن، الإنسان المصرى هو الفاعل وهو المفعول. يضرب أو يتلقى الضربات. لن نتطرق إلى البعد السياسي، بل نقصد رأسا وأساسا إلى التغييرات.. ولا أقول التغيرات.

فالأولى بفعل مؤثرات خارجية، والثانية بفعل مؤثرات ذاتية، موروثة أو مكتسبة. ما هى التغييرات التي وقعت في الشخصية المصرية؟ هل هي جديدة عليها حقا أم الجديد فيها حجمها واتساع نطاقها وما يترتب عليها من نتائج؟ هل هي تقليدية أم فيها جنون في الطبيعة وفى النوع؟

في كتابه الخالد للمرحوم أستاذنا السيد ياسين "الشخصية المصرية" كان أبرز ما يعيبها في حقبة الستينيات وما بعد الهزيمة: الكذب، ثم الفهلوة.. وسمات أخرى معيبة.. يهمنا منها الكذب ويهمنا منها الفهلوة.

الكذب كان لكنه لا يزال، وبفحش وتبجح، وفيه كذب على الذات، وليس يعقبه ندم أو اعتذار أو حياء أو ذلك الخجل المترتب على انكشاف أمر الكاذب.. بل كذب فاجر محض فيه تجبر وتهيؤ للمناطحة مشفوعا بأيمانات الله المقدسة.. بدءا باسم الجلالة ثم بالقرآن ثم بحياة النبى ثم.. بالطلاق بالثلاثة على بيته وزوجه!

كثير من بيوتنا فيها مطلقات... لا يدرين!

أما الفهلوة فاندثرت تقريبا.. لأنها قرينة الضعف والحيلة وخفة الظل، وفيها اتصال وثيق بأداء النصاب اللطيف حلو اللسان.. يسرق دمك من تحت جلد وأنت تشاركه القهقهة والإعجاب.

ما الجديد؟

سقطت الفهلوة وحل الموتوسيكل: اخطف واهرب بأقصى سرعة، سقطت الفهلوة وحلت المطواة والسكين والسيف!

ثم نأتى إلى النقيصة الثالثة الموجعة ألا وهى شيوع قلة الأصل. التعبير البلدي الدارج للإنكار والجحود.. إنكار فضل الغير.. ونسيان المعروف أو تعمد نسيانه أو الإطاحة بصاحبه تخلصا من ذكريات فقر أو عوز أو مذلة!.. لكن، الجحود والنكران ليسا وليدى اليوم.. ففى كل المجتعات وفى حقب تاريخية متعددة، كان الإنسان الجاحد هو الإنسان الجاحد.. نموذج متجدد.

الفارق في مصر الآن أن المجتمع في حالة إنكار لبعضه البعض، ولو حاول أحد فتح سيرة طيبة لأحد برز ثالث حاملا دفاتر ملطخة بالحقد والغل والمعايرة والمباكتة... ذلك كتاب مؤلم حقا... لذلك سنعرج منه سريعا إلى سمة نرجو ألا تتمكن منا وهى المراوغة.

هي من الصفات المحمودة للاعبى الكرة في الملاعب من أجل إحراز الأهداف، لكنها من سمات الثعالب من أجل قنص الفريسة.

المراوغ يتجنب المواجهة وذكر الحقيقة، وهو يلف ويدور، حتى تدوخ رأسك معه ويسقط المنطق مغشيا عليه، فيتمكن منك المراوغ. إنه لا يريد الالتزام باتفاق أو بعهد أو بكلمة فيغرقك في سيول من التواريخ والحكايات القديمة مع إيماءات وتلويحات وإشارات بدنية..

لا مفر لك أمام المراوغ من أمرين. إما قطع الاسترسال في اللف معه داخل الحلزونة.. وإما مغادرة المكان فورا.

الحاصل أننا اليوم نعيش جميعا فاعلين ومفعولين داخل دوائر المراوغة والجحود والكذب.. العواقب وخيمة.. استمرار الكذب يخلق حقيقة وهمية قابلة للتصديق والعمل وفقا لها، وهو ما يسمى خداع الذات، هزيمة يونيو نموذجا.. استمرار النكران.. يخلق جمودا في المشاعر والإمساك عن بذل الرحمة، طالما أن الذي يعطى مثل الذي لا يعطى!
تبا لنا كم تغيرنا للأسوأ.
الجريدة الرسمية