رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عزيزي قاضي البلاج


قبل أن يجلس على المنصة مسربلا في زيه الأسود، يمر القاضي بعدة مراحل حتى يصبح مؤهلا لإصدار الأحكام بين الناس، إذ يدرس لسنوات طوال في الجامعة مختلف القوانين والتشريعات، وبعد التخرج ينضم لسلك النيابة العامة.


وحين يجلس القاضي على مقعده لنظر قضية ما فإنه ينحي عواطفه جانبا، ثم يطالع الأوراق والمستندات والتحقيقات ويتعرف على الأدلة والبراهين، ويستمع إلى المتهم والمدعي والشهود والدفاع.

وهو في ذلك لا يعول على إحساسه ومشاعره تجاه المتهم أو المجني عليه، فالأمر لا يحتمل «ظنا»، بل إن الشك –كما يقال– يفسر في صالح المتهم.. وبعد كل ذلك فإن القاضي «العادل» يصدر الحكم، بعد أن يطمئن قلبه وضميره له، ثم يدعو الله أن يسامحه إن كان قد ظلم أحدهم، ولو بغير قصد.

هذا هو حال القضاء والمحاكم، لكننا نحن معشر الناس تمكنا بفضل الله الواحد الأحد من اختصار كل ما سبق، فأصبح كل منا قاضيا يصدر الأحكام، فيدين هذا ويبرئ ذاك، معتمدا في ذلك على رأي شخصي خال من أي دليل، وحدس لا يستقيم والعدالة.

والأدهى والأمر، أن بعضنا لا يكتفي بدور القاضي، بل ينصب نفسه جلادا أيضا، فيعاقب هذا أو ذاك بعقوبات ما أنزل الله بها من سلطان، وأكثرها انتشارا «التشهير» بـ فلان أو فلانة دون سند أو دليل، لتصبح سمعة الناس وأعراضهم مضغة في الأفواه، وتصير لحومهم –وهم أحياء- وليمة على موائد اللئام.

في النموذج الأول، يحاول القاضي أن يكون عادلا يسعى إلى أن يرى الصورة كاملة، فإذا استمع إلى المدعي فإنه أيضا يستمع إلى المدعى عليه، وإذا أنصت لشهود الإثبات، فإنه كذلك يصغى لشهود النفي.. يسمع ويقرأ ويفكر ويقارن ويعقل الأمور والأحدث قبل أن يتفوه بكلمة قد تنتهي بأحدهم إلى حبل المشنقة أو الاحتقار بين أهله.

أما في النموذج الثاني، فإن معظمنا يكتفي بالاستماع لنصف الحكاية، على لسان أحد أطرافها، بل وأحيانا على لسان طرف ثالث سمع القصة ثم أضاف عليها ما تيسر من البهارات والمشهيات، ليفتح نفس المتلقي كي يلعن سلسفيل جدود «المتهم» الذي بات «مجرما» في حكاية أحدهم.

هذا النموذج يذكرني بـ«قاضي البلاج» في فيلم «أبي فوق الشجرة»، إذ لم يحتج الأمر –كي يتحول هذا الشاب المصيف إلى قاض– إلا لمجرد خرقة يلف بها رأسه، ليأمر بعدها أحد المتهمين بأن «يقوم في قطر العصر/ يرجع حالا على مصر».

لكن، هل يمكننا أن نلقي باللوم كله على «قضاة البلاج» المنتشرين هنا وهناك وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي؟

في الحقيقة وفي الواقع وبعد الإقرار بأن البحر كله قواقع، لم يكن لمثل هكذا ظاهرة أن تنتشر إلا إذا كان الناس يشعرون بغياب العدالة، أو أن يكونوا قد فقدوا ثقتهم في إقرار الحق ونصرة المظلوم –في كثير من الأحيان– أو لتيقنهم من أن هناك من هم فوق القانون، سواء بمالهم وسلطانهم ونفوذهم أو بسبب فساد «البعض»، فضلا عن امتلاء جراب حواة «القانون» بالثغرات التي تسمح بأن «يلج الجمل في سم الخياط».
Advertisements
الجريدة الرسمية