رئيس التحرير
عصام كامل

أوجاع الفلاح الفصيح؟!


لم تستطع حياة المدينة أن تُنسِينى علاقتى بالنهر، ولا حالة البؤس التي يعيشوها الفلاحون بالقرى، بل أخذتنى إلى البحث في معاناة الفلاح المصرى عَبرَ التاريخ، وفى علاقته بالطبيعة والملك، فقد عَبَدَ الشعب المصرى على مُرِ التاريخ كُلَّ من قدمَ له "غذاءه"؛ إذ عَبَدَ الشمسَ والنيلَ والفرعون معًا.. إلا الفلاح فلم يعتن به!


لقد مًارس النيل على الشعب أسوأ أشكال العبودية، لدرجة أنه تَخَيّل النهر "كائن حَي" يأكل ويحكم ويتزوج النساء، ويقول "أعطنى أرضك وجهدك.. أعطك مياهى"! ومن ثم فقد كان الفلاح يحرث الأرض بالنهار ويسقيها بالليل، وكأن العمل بالأرض والفِلاَحة "صَلاةٌ" يقضيها الفلاح للنهر في كل صباح ومساء!

وكان حينما يحتاج النهر لـ"الزواج" يَّجِفُ.. ولا يجرى ماؤه إلا إذا قدم له الفلاحون أجمل فتياتهم! واستمرت تلك العادة إلى أن حكم المسلمون وتمردوا عليها بالصلاة من أجل الماء.. وخطبة خليفة المسلمين "عُمّر": يا نيل.. إن كنت تجرى من عندك.. فلا حاجة لنا بك"!

ليس ذلك فحسب، بل اعتبر الفلاح النيل ابنًا للإله "رع"، وأعد له أُنشودة مقدسة، يُعَرِفُ الناس بالنيل قائلًا: "إنه النيل الذي يروى البراري.. مخلوق الإله "رع".. هو الذي يسقى الصحاري، إنه حبيب "جب" مدير آلهة الحصاد، إنه سيد الأسماك، وصانع الشعير، وخالق القمح، إذا هَبطَ صارت الأرض كلها فَزَع وحُزن، وإذا فاض باتت الأرض كلها في احتفال وسرور!

أما علاقة الفلاح بالملك فلم تكن أقل قسوة من علاقته بالنهر، فكانت إذا عَمَّت المجاعات؛ يتولى الفلاحون تدبير المؤن، ويخرج الفلاح إلى الحكام والنبلاء قائلًا: "انتظروا.. سوف أبتعدُ عن داري من أجلكم؛ حتى أعود إليكم بالطعام! وحينما شعر الفلاح بغُبن الملك وقهر الحاشية واستغلال النبلاء؛ أنجب الفلاحون الفلاح الفصيح الذي عارض الملك قائلًا: "إنك لص.. تحكم البلاد بجهل الفلاحين"..

 وحينما استعلى الملك الإله على وجيعة الفلاحين؛.. تمردوا عليه، ومارسوا ضده أسوأ أشكال التجويع السياسي.. وأكدوا أنه "لا سًلطان لمن في السماء على الأرض.. وأن الأرض لمن يَحرِثُهَا"!

إن الفلاح إذا ثارَ على الظلم، لم يفرق بين معبد لإلهة، أو ديوان لحكومة، أو قصر لغنى.. وإذا ما استوعب الحُكَام ثورته؛عاد إلى الحقل ليزرع الأرض،ويبنى الوطن!، ويؤسس لعلاقة جديدة بين الفلاح والحاكم، قَوَامُها الحقوق والواجبات. وأن الحاكم مسئول عن حماية النهر؛ فإذا ما فَرَّط فيه أو أهمَلّهُ؛ فقد شَّلَ ذراعَ الأمة الفَتيّة.. وقَيّدَها في الأغلال!

لم تكن مسألة استعباد الفلاح مرهونة بحياة الملك؛ فكانت القوانين تُحَرِّم على الفلاح أن يذبح البقرة العفيّة السليمة التي تحرث الأرض. وكان الملوك والنبلاء يحرصون على استنزاف قوت الفلاحين حتى وهم موتى.. فكانوا يكتبون على مقابرهم "أيها الأحيّاءُ فوقَ الأرضَ.. يا مَن تَمُرَونَ بهذا الضريح.. هل تحبون أن يرضى عنكم مَلِيكَكُم، وأَن تكونوا من المقربين من الإله العظيم ؛ قَدِمُوا ألف رغيف وألف قدر من جُعَّةٍ للمُقرب، يقصد أقرباء الملك"، ولعل هذه الدعوة.. واستمرت تلك العادة إلى الآن.. فلايزال جوعى الفلاحين يذهبون إلى مقابر موتاهم م بـ"أرغِفّةِ" العيش الطازجة وأجود أنواع الفاكهة.. بينما يذهب أهالي المدن إلى المقابر بـ"باقة "وَّرد!

لم يكن النهر والحاكم وحاشيته فقط من تخصصوا في استعباد الفلاح، فكانت الديدان والجرذان تأكل محصول القمح، وكان الطاعون يقتل الماشية، وفى أحلك تلك الظروف كانت تأتى حراس مخازن الملك بعصيّهم، والزنوج بجريد النخل، يطالبون بالضرائب!.. فإذا امتنع أحدُ الفلاحين؛ طرحوه أرضًا، وربطوه وجرّوه إلى القناة وأَلَقّوه فيها، وزوجته مربوطة معه، وأطفاله مٌقيَّدُون في السلاسل، ولم يجرؤ أحدُ على إفلاته"..

وعلى الرغم من ذلك التاريخ من "الضنك والسخرة والظلم" فإن ذلك لم يمنع الفلاح المصري من أن يكون رائدا للزراعة في العالم، وقائدا لتقدم وطنه.. ومسيرة حضارته!

إن معاناة الفلاح لم ينهيها سقوط الإلهة الحاكمة، ولا رحيل البطالمة والرومان ولا سائر المستعمرين، فقد ظلت معاناة الفلاح باقية تتوارثها أجيال الفلاحين؛ لتشهد على استبداد أنظمة الحكم جميعها، وتجاهلها للفلاح ومكانته ودوره الرئيسى في تحقيق الأمن الغذائى، وبرغم أن الفلاحة هي المصدر الأساسى للأمن الغذائى، وشرط ضروري لبقاء الإنسان على الأرض.. فإن أول من يتحمل مغارم نقص الغذاء في مصر هو الفلاح نفسه!

لقد ساءت حالة الفلاح المصرى عصرا بعَدَ الآخر، فبَارَت أرضه بسبب نقص مياه الرى، أو بسبب ملوحتها وارتفاع معدلات الطَفلَّة فيها؛ نظرًا لاختلاط مياه الرى بالصرف الصحى، ورغم أزمة الأمن الغذائى، التي باتت تهدد البلاد بقوةـ ورغم ارتفاع معدلات التصحر التي تُفقُد مصر كل ساعة ثلاثة أفدنة من أراضيها الخصبة؛ فإن الفلاح الذي هو صانع الأمن الغذائى لا يزال "ضحية" تجاهل الدولة..

حيث تشير التقارير البحثية أن 50% من الفلاحين يعيشون على الهياكل العظمية للطيور ورءوس الأسماك التالفة، ويستبدلون "آكل" الفاكهة بالنكهات الطبيعية.. وأن 92،5 من الذين يعانون من نقص الأمن الغذائى لديهم بطاقات تموين.. إلا أن حصة التموين لا تكفى سوى احتياجات خُمس أفراد الأسرة.. ليس ذلك فحسب.. فخُمس هؤلاء أيضًا يعانون من نوعين من الأمراض، أحدهما على الأقل "مُزمِن"!

إن ظاهرة معاناة الفلاح المصرى لا تزال باقية، وسوف تبقى ما لم تُعَّظِم الدولة من إنسانيته، وتدعم حقه في حياة كريمة؛ من خلال "دعم" محاصيله دعما كاملا.. وإعفاء المنتجات الزراعية من كافة أنواع الضرائب والجمارك.. وكفالة التأمين الصحى والاجتماعى لهم.

إن المبادرات التي تنفذها الحكومة المصرية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى والقطاع الخاص من أجل حياة كريمة للمواطن المصرى خاصة بالريف، من خلال اهتمامها بتنمية وتطوير 1000 قرية مصرية؛ ربما يعودة بالفائدة بشكل أو بآخر على العاملين بالفلاحة..

لكن سوف تظل هذه البرامج مجرد خطوة مهمة في طريق الاهتمام بسكان الريف، الذين يعمل السواد الأعظم منهم بالفلاحة.. ولن تتحسن أحوال الفلاحين إلا إذا ما تم دمج برامج وأنشطة مبادرة حياة كريمة في السياسات العامة للحكومة.. حيث يصبح لكل فلاح الحق في مطالبة الدولة بهذه الخدمات التي يراها حقا، وليس محض إحسان من الدولة على الفلاح!

ولن يتحقق الأمن الغذائى المصرى إلا بتأمين حياة الفلاح وحمايته من كابوس الفشل الكًلَّوِى، والفيروسات الكبدية بشتى أنواعها، وحماية الفلاح من الأسمدة الفاسدة والمبيدات الزراعية المُسَرطنة، ولن تتحرر مصر من كبواتها الاقتصادية؛ إلا إذا تحرر الفلاح من صورة العبودية التي يراها في عين كل مسئول حكومى، يقف الفلاح مقهورا على باب مكتبه!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية