رئيس التحرير
عصام كامل

"المصري للمصري".. استلهام تجربة "طلعت حرب"


خلال لقائه مع رئيس مجلس إدارة شركة (ميتسوبيشي) اليابانية تاكيهيكو كاكيوشي، أكد الرئيس "عبد الفتاح السيسي" امتلاك مصر الإمكانات اللازمة،لأن تمثل محورًا مهمًا لكل الصناعات اليابانية المشهود لها بالكفاءة، وأن تكون نقطة انطلاق لها إلى أسواق مختلف دول العالم.


وهذا بالطبع تصريح يخدم الاستثمار، وخلق فرص عمل وتوفير العملة الأجنبية إلخ، لكنه بالتأكيد يجعلنا نقف عند سؤال جوهري ومحوري، وهو إذا كانت مصر لديها الإمكانات لتكون نقطة انطلاق الصناعة اليابانية للعالم فأين إمكانات انطلاق الصناعة المصرية للعالم؟

وبالطبع الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، وإن كانت ستفتح بابا كبيرا من اللغط حول دور الدولة في الاهتمام بالصناعة المصرية التي تريد لها المنافسة عالميا، فهل مصر بالفعل تريد صناعة مصرية خالصة عالمية تنافس في أسواق العالم الدول الصناعية الكبرى بل والصغرى؟ وهو ما يدفعنا إلى السؤال الملح، هل مصر تمتلك مقومات صناعة متطورة؟

والإجابة بسيطة، فمن مقومات الصناعة وفرة المادة الخام، والتي هي عبارة عن المواد الأولية الموجودة بالطبيعية، وهذه المواد تحتاج إلى من يعيد تصنيعها حتى يستفيد الإنسان منها، ومن هذه المواد القطن، والجلود، واللحوم، والحديد، والرمال البيضاء، وبعض المعادن الثقيلة والنادرة الخ. وطبعا لدى مصر غالبية المادة الخام لانطلاق أغلب الصناعات المتطورة.

ومن مقومات الصناعة توافر الأيدي العاملة، حيث تعتبر الأيدي العاملة ركنا أساسيا، وجوهري بالنسبة للصناعة حتى مع ظهور الآلة، فالآلات الذي ابتكرها هو الإنسان، ولا تعمل من تلقاء نفسها، ولكنها بحاجة إلى من يقوم بتشغيلها، وعندما تعطل الآلة تحتاج من يقوم بإصلاحها، ومع التطور أصبحت الأيدي العاملة ثروة من الضروري المحافظة عليها وتنمية مهاراتها، وقدراتها، وتوفير الأجور والحوافر التي تعينهم على الوفاء باحتياجاتهم. وطبعا لدى مصر وفرة في الأيدي العاملة التي تحتاج تدريبا مباشرا على الصناعات المختلفة.

كما نجد ثالث مقومات الصناعة في الأسواق، فتعتبر الأسواق من أهم مقومات الصناعة، فالسوق هو همزة الوصل بين البائع، والمشتري لأنه هو المكان الذي يقوم به المنتج بعرض المنتجات، ويذهب إليه المستهلك لشرائها. وتعد مصر من أكبر أسواق المنتجات في الشرق كما تتسم بأنها موصل جيد لكل أسواق العالم بحكم موقعها الجغرافي. ومن مقومات الصناعة وفرة القوى المحركة وتتمثل في مصادر الطاقة سواء الطاقة المتجددة كالشمس أو غير المتجددة مثل البترول والغاز الطبيعي..

وتعد القوى المحركة هي أساس الصناعة، ولدى مصر وفرة كبيرة في هذا العنصر من مقومات الصناعة وتطورها. ويأتي عنصر توافر وسائل النقل والمواصلات من مقومات الصناعة حيث تعتبر وسائل النقل من الوسائل الضرورية اللازمة للصناعة، فهي تقوم بنقل المادة الخام إلى المصانع، وتقوم بنقل المنتجات إلى الأسواق، وكلما تقدمت وسائل النقل من عربات نقل البضائع، وغيرها زادت فرصة المحافظة على الوقت والجهد من الضياع. وهذا أيضا من العناصر المتوافرة في مصر.

إذن تتوافر في مصر كل المقومات لصناعة متطورة، بجانب المال اللازم لنشأة الصناعة والمصانع والمكدس بالبنوك، والذي يحتاج أصحابه إلى استثماره بعائد مناسب، فلماذا إذا لم تتقدم الصناعة المصرية وتنافس الدول الكبرى في ذلك المجال ومنها اليابان التي لا تمتلك من مواد الخام ما تمتلكه مصر؟ ولماذا نجد ميزان المعادلة من ناحية دخل الصناعة غير متكافئ، والعجز كبير في الميزان التجاري، فالواردات سجلت نسبة زيادة بلغت 19% حيث بلغت 57.7 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2018، مقارنة مع 48.5 مليار دولار خلال نفس الفترة من عام 2017 بفارق 9.2 مليار دولار.

في سياق متصل سجلت الصادرات غير البترولية زيادة بنسبة 11 % لتحقق 20.6 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر مقارنة بـ 18.5 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2017، ومن واقع هذه الأرقام فإن العجز التجاري لمصر خلال أول 10 أشهر من 2018 سجل 37.1 مليار دولار؟.

وطبعا الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج مجلدات في أساب عدم المنافسة الصناعية المصرية لدول العالم الصناعي رغم امتلاكها كل الإمكانات للتطور، وأرى أن أهم أسباب ذلك يرجع إلى عدم وجود إرادة حقيقية نحو صناعة مصرية متطورة، تلك الإرادة التي كانت لدى منشئ الصناعة المصرية في القرن التاسع عشر "محمد على" الذي شهد عصره إرساء قاعدة صناعية كبرى، شملت صناعة المنسوجات وصناعة السكر وعصر الزيوت، ومضارب الأرز، وازدهرت الصناعات الحربية، وتم إقامة ترسانة لصناعات السفن ومصانع لتحضير المواد الكيماوية.

كما امتلك تلك الإرادة الاقتصادي المصري العظيم "طلعت حرب" الذي نفذ فكرة إنشاء صناعة وطنية مصرية في مصر حتى تتحرر البلد من سيطرة الدول الأوروبية. وعندما بدأ "طلعت حرب" تنفيذ فكرته، حورب من البنوك التي كان معظمها مملوك للأجانب. ولما أدرك أن هذه البنوك لن تساعد مصر لإنشاء صناعاتها الوطنية، قرر إنشاء بنك مصر لتمويل مشروعاته.

ورفع المصريون شعار "المصري للمصري" ونجح هذا الشعار في حماية المصنوعات المصرية، وكان "طلعت حرب" قد قام في إطار السياسة الاقتصادية للبنك بتأسيس العديد من الشركات منذ افتتاح البنك وحتى عام 1938م، حيث كان يقتطع جزء معين من الأرباح السنوية للبنك يظهر في الميزانية باسم "مال مخصص لتأسيس أو تنمية شركات مصرية صناعية تجارية"..

حيث يتم المساهمة به في رأس مال الشركة ويساهم المواطنون بالباقي، فأصبح البنك من تأسيس المصريين والمستفيدين منه أيضًا المصريين، بحيث أصبح نظام العمل في البنك والشركات نظام اقتصادي متكامل، أي يتم تجميع مدخرات المصريين في البنك ويقوم هو بتوظيفها في الشركات المصرية والتي بدورها تقوم بإنتاج منتجات مصرية بمستوى جودة عالي وأسعار منخفضة، تقوم بسد الاحتياجات الضرورية للاستهلاك المحلي؛ مما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني ككل وبالتالي على المواطن، وأيضًا توفير العديد من فرص العمل وتدريب الأيدي العاملة في جميع المجالات الصناعية والاقتصادية والمالية.

كانت أولى الشركات التي قام بنك مصر بتأسيسها هي مطبعة مصر، وشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وأنشأ شركات مصر للملاحة البحرية، ومصر لأعمال الأسمنت المسلح، ومصر للصباغة، ومصر للمناجم والمحاجر، ومصر لتجارة وتصنيع الزيوت، ومصر للمستحضرات الطبية، ومصر للألبان والتغذية، ومصر للكيمياويات، ومصر للفنادق، ومصر للتأمين..

كما أنشأ "طلعت حرب" شركة بيع المصنوعات المصرية لتنافس الشركات الأجنبية بنزايون -صيدناوي وغيرهم. وقد سعى "طلعت حرب" لإنشاء شركة مصرية للطيران إلى أن صدر في 27 مايو 32 مرسوم ملكي بإنشاء شركة مصر للطيران كأول شركة طيران في الشرق الأوسط برأس مال 20 ألف جنيه. وإيمانا منه بضرورة تدعيم الثقافة والفنون ونشر الوعي قام بتأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما "ستوديو مصر" لإنتاج أفلام مصرية لفنانين مصريين مثل أم كلثوم، عبد الوهاب وغيرهما.

تجربة "طلعت حرب" هو ما تحتاجه مصر الآن، فاستلهام التجربة هو ما يعيدنا للمسار الصحيح، فإذا استثمارنا أموال البنوك في الصناعة الجديدة بإرادة "طلعت حرب" لن نحتاج لمستثمر أجنبي، وسننشئ صناعة مصرية خالصة وليست مجرد إعادة تركيب منتج أوتقفيل منتج من الخارج، ووقتها ستكون الصناعة المصرية هي التي تغزو العالم وليست مصر مجرد وسيط لترويج الصناعات العالمية.
الجريدة الرسمية