رئيس التحرير
عصام كامل

تحقيق التنمية الاقتصادية اعتمادا على تأسيس الهوية المصرية


إن بعض المثقفين يعتقدون أن الهوية المصرية من الثوابت ولم تتعرض لتطوير، ولعل هذا المصطلح برز إبان عهد مرسي وأخونة الدولة، ولكن هذا الصراع على الهوية تاريخي، وقد برز عند إرساء قواعد الدولة المصرية الحديثة، وقد رصده كل من الباحثين "جانكوفيسكي" و"جارشوني" واعتقدا أن "رفاعة الطهطاوي" ورفاقه طرحوا الجدل حول الهوية المصرية ما بين الهوية المصرية والعثمانية. 


تطور الصراع إلى حركة عرابي وما بعد الاحتلال الإنجليزي، وتنامي مع ثورة ١٩ ليصيغ شكلا للهوية المصرية كدستور للحركة الوطنية.. ثم جاءت أطروحات وتعديلات.. طرح "جمال عبدالناصر" أطروحة القومية العربية مصاحبا لثورة اجتماعية أكدت على رؤيته.

ثم طرح السادات رؤية مختلفة مضادة دعمتها أمريكا ودول الخليج وهي فكرة الصبغة الدينية لنظام الحكم ليواجه التيار الشيوعي ولكنه أخفق في صياغة فكرة متكاملة، لأن الحزب الوطني الحاكم كان ليبرالي المنهج -ولو نظريا- مع سيطرة الأصوليين على مفاصل الدولة مثل التعليم.. صاحب هذا الاضطراب ظاهرة اجتماعية هي محدثو الثراء وسببت هذه المتغيرات القصرية اغتيال "السادات" على المدى القصير، أما على المدى الطويل التباس في مفهوم الهوية المصرية ما بين الأصل الفرعوني أو اللغة أو الدين نتج عنها تمزقا شديدا ظهر عقب أحداث يناير ٢٠١١ مع وجود تيارات عتيدة تعارض هذه الرؤي.

إن تعريف الهوية علميا هو ما يميز الشيء أو الشخص... ترتكز على المعتقدات والمفاهيم والموروثات، وهي أمور قابلة للتشكيل والتطور وليست ثوابت حيث إن ما مرت به مصر تاريخيا من حقب وعصور ودول وحكام يميزها في كل شيء، فلها لغة عامية مميزة.. وروح دينية متسامحة.. ومن موقعها الجغرافي لا تعد أفريقية ولا شرق أوسطية ولا من دول حوض البحر المتوسط.. إنها خليط فريد، وكما أطلق عليها "جمال حمدان" شخصية فريدة عبقرية، فمصر هويتها كوزموبوليتانية تحتضن العديد من الثقافات والحضارات وتصهرها. 

بل إنها أثرت في الغزاة أكثر مما أثروا فيها.. الأزمة التي يواجهها الوطن عدم وجود مفهوم للهوية المصرية ساعد في ذلك مركزية الدولة وترامي الأطراف بما أعطي للمحافظات الحدودية والريفية هويات متناقضة مستقلة عن القلب.. لعل تعريف الهوية والانتماء جزء من معركة سيناء ضد الاٍرهاب.

من الخطر أن تكون خطة الدولة اقتصاديا هو دعم السياحة ولكن هناك مرشد سياحي يروج أن الفراعنة كفار بدون إدراك تطورهم في الفكر الإنساني والقوانين الوضعية في عصور سادت فيها الديانات الدموية.. فيسبب صراع الهوية اصطدام الهوية بمخططات التنمية الاقتصادية.

بدون هوية واضحة وبدون رموز مجتمعية برز لنا "أبوتريكة" بسبب فراغ نفسي لدى الشباب تدعمه الميديا بعدم وجود محتوى مقنع.. الأزمة أن يتكرر الأمر في صناعة بطل قومي آخر هو "محمد صلاح" ومع احترامي لكفاحه ومسيرته الرياضية ولكن الرموز القومية التي تسير خلفها الأجيال، يجب ألا تكون محض الصدفة، وأن يتم تفنيدها وصياغتها لتعبر عن هوية وطنية سليمة غير قابلة للانحراف تستخدم لبناء الوطن.. ومصر زاخرة بالأبطال الوطنين والعلماء ورواد الأعمال الشباب قد يسهم إعلاؤهم في صياغة هوية وطنية سليمة.

عندما تواجه الأمم مخاطر في سلوك شبابها فهل يمكن صياغة الهوية وتشكيل السلوك للشباب في فترات قصيرة؟.. هذا هو ما أثبته "ريتشارد ثيلر" ولذا حصل على جائزة نوبل الاقتصاد لعام2017 لنظرياته لتشكل ثورة لعلم مستحدث هو الاقتصاد السلوكي، من خلال دراسة العوامل النفسية في التأثير السيئ على القرار الاقتصادي للفرد داخل المجتمع ليشكل طفرة نوعية ضد النظريات الكلاسيكية التي افترضت أن البشر يعقلون جيدا أثر القرار الاقتصادي نحو مصالحهم.

وفي كتاب "التنبيه" (Nudge) الذي شارك في كتابته "ثيلر" حقق أعلى المبيعات في العالم ويبحث الدوافع النفسية التي تدفع الفرد نحو قرارات اقتصادية استهلاكية غير عقلانية مما دفع الحكومة الإنجليزية إلى تأسيس "وحدة للتنبيه" خلال حكم رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" عام 2010.. للتوصل إلى سبل إبداعية لتغيير السلوك العام للشباب الإنجليزي، ثم انتشرت فروعها في بريطانيا ونيويورك وسنغافورة وسيدني، وقد استطاع "ثيلر" مواجهة الثقافة الاستهلاكية للفرد وإمكانية تعديلها نحو ثقافة الإنتاج والادخار.. أن علم الاقتصاد السلوكي يؤكدان السلوك هو مفتاح للتنمية الاقتصادية.

اليوم يحتاج الوطن إلى مشروع صياغة للهوية وصناعة رموز مجتمعية محفزة لتشكل سلوك الفرد نحو بناء الوطن اقتصاديا واجتماعيا اعتمادا على بناء الفرد أولا.. أن الهوية جزء من احداثيات التنمية المستدامة ولا يوجد دولة حققت نموذج للتنمية ولم تواجه أولا معركتها نحو الهوية أمام الموروثات والمفاهيم التقليدية.. هكذا نجحت أوروبا ثم الصين والهند حتى مفهوم المدينة العالمية لا يتحقق بلا هوية، لذا فإن دبي وهونج كونج استطاعت صياغة هوية متفردة لتحقق تجربتها الاقتصادية.
الجريدة الرسمية