رئيس التحرير
عصام كامل

ذكريات محفورة في البيوت


بعد هدوء الرياح الخماسينية القادمة في غير موعدها، مرتبطةً بحدث لا يمكن لبشر أن يحدد موعده، عندما غادر الرئيس المعزول شعبيا وثوريا وجماهيريا "محمد مرسي" مسرح الحياة، إلى حيث نغادر جميعا، وهذا التفسخ المجتمعي الافتراضي بفعل فاعل معروف للعامة والخاصة، بعد أن أضحت معارك اليوم على غير ما عهدنا بالأمس القريب.. بعد كل هذا أعود بذاكرتي وأذكر لعل الذكرى تنفع الناس أجمعين.


أعود بذاكرتي إلى حيث موقعي الذي أكتب منه الآن، وعبر سنوات ما بعد ثورة يناير المجيدة، وحتى هبة الجماهير الواعية في ٣٠ يونيو، وصنع ثورة أنقذت البلاد بمحيطها الإقليمي والدولي، من مغبة سنوات البيع العلني لفكرة الوطن، الذي توطن فينا منذ عهود الفراعنة العظام، الذين أنشؤوا أول دولة في التاريخ الإنساني، وظلت تعيش وتتعايش مع مصائب الدهر حتى جاءت جماعة الإخوان، لتعتلي كل شيء بدءًا من السياسة وحتى المجتمع.

أتذكر الجماعة التي اعتمدت ولأول مرة في تاريخنا قديما وحديثا نموذج القادم عبر الحدود، ليعبث بأمن وطن كان عنوانه طوال التاريخ حماية الأمة العربية كلها، بدماء سالت وما زالت وبأموال أنفقت ولا تزال أيضا حتى أفقرت الشعب الأغنى في العالم، أفقرت كنز الأرض، وهبة النيل، وهدية الله إلى البشرية كلها، أتذكر وأولادي وجيراني، ونحن نتبادل حماية الدار والشارع والحي من مسلحين لا يمكن أبدا أن يكونوا جزءا من وطن الأمن والهدوء والاستقرار.

أتذكر كهلا في الحي الذي أسكنه يقدم لي سلاحا باعتباري ما زلت في سن الشباب، وأستطيع استخدامه لحماية عدد قليل من سكان المنطقة التي لم تكن قد عمرت بالناس بالشكل الكافي، أتذكر وأنا أمسك بالسلاح ويداي ترتعشان وأنا أتساءل: هل أستطيع ضغط الزناد في مواجهة آدمي خلقت أنا وهو لنعمر الأرض، أنظر إلى أسرتي الصغيرة، أتحسس أنفاسي المنهكة خوفا ورهبة مما يحمله المستقبل.

تمضى ذاكرتي على أحداث الميدان، وتعذيب الشباب تحت مسرح الإخوان لانتزاع اعترافات منهم، أتتبع أخبار القناصة، أقرأ وأشاهد سجونا تفتح ويخرج منها محمد مرسي ورفاقه، يتحدثون إلى الجزيرة القطرية، يعيثون في الأرض فسادا، أجهزة الدولة ترصد أجانب قادمين من على الحدود ليلا، يدخلون إلى العاصمة وما هو أبعد من العاصمة، أعود إلى جلسات المحاكمة ليعلن "مرسي"- المحزون عليه في العالم الافتراضي- وهو يفخر بأن يكون جاسوسا لحماس!!

تنهشني أحداث الذاكرة، وفي مواجهتي نادي القضاة النهري، وقائل يقول لنا: خذوا حذركم.. شباب الإخوان قادمون لمحاصرة النادي وتهديد من فيه، زملائي يتحسسون مواقعهم في النوافذ المطلة على نيل العجوزة، وكل علامات الخوف تسكن وجوههم، فالإخوان قادمون، أعود أكثر إلى ما بعد سقوط "مبارك"، ونحن نجالس المشير "حسين طنطاوي"، مع مجموعة من الكتاب والصحفيين، يقف الكاتب الكبير المحسوب على الإخوان، وهو يهدد ويتوعد ويقصي ويهمش الحضور باعتباره القادم وحده لا شريك له.

تطوف بي عدسة الزمان إلى حصار الإخوان لمحبوبتي "فيتو"، وزملائي يعودون بالزميلة "هند نجيب" من الميدان، والدماء تغطي وجهها، بعد أن قصفوا عيونها البريئة بالخرطوش، ومعها زميلة مصورة محمولة على أكتاف زملائها نجري بها إلى مستشفى لا نعرف أن مالكه إخواني فيرفضون علاجها، ونواجه قسوة لم يكتبها الله على طبيب، نهرب بها إلى مستشفى آخر والأخماس والأسداس في رءوسنا عملية حسابية معقدة فكيف نهرب من هذا الشبح المريع؟!!

أدخل إلى صالة التحرير مستجمعا قواي راسما على وجهي ابتسامة ليست في أعماقي، لعلى كنت أحاول القيام بدور القائد المسكون خوفا لا بد أن يخفيه عن أبنائه، أرى شبابا في عمر الزهور، بعضهم يفكر في طريق للهجرة، وآخرون مهزومون بمستقبل لا يحمل خيرا، وفريق ثالث لا يزال يقبض على شجاعته كالقابض على جمر، وأنا ومعي رفاق ممن اعتركوا الحياة نبث في النفوس أملا بعيد المنال.

شاشات الفضائيات محتلة بوجوه كانت حتى وقت قريب داخل أقفاص محاكمة المجرمين، يتحدثون بتعال وتجبر، يهددون ويتوعدون فالجنة في يمينهم، والنار عن شمالهم، والشعب من غير الإخوان إما كافر وإما فاسق، أتذكر ضابط شرطة بعد الهجوم على محل عمله في إحدى ضواحي القاهرة، استعان بزميل قام بتهريبه في زي منتقبة، نعم أتذكر والعار يطارد ملامحي، أتذكر "محمد مرسي" الصديق الوفي للمحتلين في فلسطين، وأتذكر توقيع "مرسي" بالموافقة لتل أبيب على تركيب أجهزة على الحدود رفضها "مبارك" الفاسد طوال تاريخه.

أتذكر الحرائق.. أتذكر الهلع الذي سيطر على الشعب المصري، بعد أن طالت أياديهم جنودنا في سيناء، وقتلوهم بدم بارد، أتذكر "محمد مرسي" وهو يناشد خاطفي الجنود من أجل سلامتهم وسلامة الخاطفين، أتذكر أفواج تجار النضال القادمين عبر الحدود مع غزة، أتذكر وطنا مستباحا من الجماعة وأصدقائها، أتذكر وهم يجهزون لعقيدة جديدة لا وطن فيها ولا حدود ولا مقدسات، أتذكر أن بلدي كان على محك البلقنة، والصراعات تمتد إلى الشوارع والحواري، أتذكر قريتي الصغيرة وشباب الجماعة يحرقون كمين الشرطة، والضباط يتوسلون إليهم.. هذه ممتلكات الشعب لا تحرقوها!!

الذكريات التي عشتها عاشها الجميع، غير أن الذاكرة السمكية أفادت الإخوان فأطلوا علينا من عالمهم الافتراضي، ليوهمونا بأننا منقسمون، أقسم بالله لو اعتلوا الحكم سنة أخرى لضاعت مصر ومعها العالم العربي كله!!
الجريدة الرسمية