رئيس التحرير
عصام كامل

شرعنة الفوضى.. كارثة


لم أندهش من إعلان على شبكات التواصل الاجتماعي يبشر طلاب الثانوية العامة بدخول الامتحان باطمئنان، لأن عباقرة مصريين يوفرون سماعة دقيقة جدًّا لن يكتشفها المراقب، يستطيع من خلالها الطالب أن يستقبل ويرسل على الموبايل مكالمات، من خلالها يطرح أسئلة الامتحان ويتلقى الإجابات بكل أريحية.. الإعلان ليس للأغنياء فقط، لأنه يطرح اختيار إيجار هذه السماعة فترة الامتحان فقط دون تكلفة باهظة.


السلوك الإعلاني يتطابق كثيرًا مع واقع يزخر بالفوضى، التي لا يمكن لعاقل أن يتصور أنها فوضى غير ممنهجة، تضرب بجذورها في المجتمع، مجتمع "الهليبة" والمكسب السريع، والغش الحلال، والسرقة المباحة، والبلطجة المحمية التي لها من يمثلها في معظم أجهزة الدولة، تلك الفوضى التي تدفعنا دفعًا إلى المطالبة بإسناد معظم المشروعات لمؤسسة لم تطلها يد الإهمال، ولا تزال قادرة على العمل بانضباط شديد.

خذ عندك.. رصيف القاهرة الكبرى الذي يتغير بصورة شبه دورية كل عام أو عامين، ترى بأُم عينيك، وأنت لست متخصصًا، أن عمليات التركيب تشوبها أخطاء هندسية وكارثية، وتستطيع أن تحكم عليه بالعين المجردة، بأنه سينتهي قبل تسليمه، ويرى هذا الأمر المحافظون ونوابهم والإدارات الهندسية، ومع ذلك يمر دون عقاب، لأن بعض ضعاف النفوس يتلقون الرشاوى لاعتماد التركيب، وهو الأمر الذي يتكرر في كل مرة..

ما الذي لا يجعلنا نطالب بإسناد هذا الأمر إلى الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة، حرصًا على المال العام وحفاظًا على ثروات البلد، وساعتها سيعيش الرصيف لسنوات دون كلفة متكررة، ندفعها رشاوى من دم الغلابة، هذا الأمر ينطبق على التجميل والتشجير وكل مظاهر الحياة العادية.

خذ عندك مثلا.. انتشار التوك توك بشكل مرضي، وتحوله إلى أكبر إهانة في التاريخ للمدن والقرى، وسيادة سلوك التوك توك الذي لم يعد وسيلة مواصلات بقدر ما أصبح وسيلة انهيار للشوارع، بحيث أصبحت بحاجة إليه بعد أن امتلأت به الشوارع، فلا تستطيع التحرك إلا داخله.. هل نسند المرور للقوات المسلحة أم نخفف العبء الواقع على وزارة الداخلية، ونفكر جديًّا في إسناد المرور إلى القطاع الخاص ؟!

احتلال الأرصفة وانتشار المقاهي التي تحولت إلى صداع وكارثة تهدد السلم الاجتماعي، هل هذه المقاهي سرية لا يراها مسئولو المحافظات، أكشاك دون ترخيص، واحتلال للكباري على النيل، وبناء أبراج بدون ترخيص في حارات، تصبح معها هذه المناطق قنابل موقوتة، بسبب الزحام، وعدم قدرة الدفاع المدني على الوصول إليها، وعدم قدرة البنية التحتية على استيعابها، واتفاق بعض موظفي الأحياء مع المخالفين، أن يبدأوا البناء عصر كل خميس وأيام الجمع، إمعانا في الهروب من المخالفات التي تدوَّن على الورق فقط.. هل نسند المحليات إلى القوات المسلحة التي تتحمل وحدها، مع الشرطة، مسئوليات حرب ضروس ضد الإرهاب؟..

صور الفوضى لا تنتهي، وهي مشاهد متكررة في حياتنا اليومية، بدرجة قد يصل إلى يقينك أنها ممنهجة، وتشير بوضوح إلى سوء اختيار قيادات المحليات والمحافظين ودولاب العمل اليومي في المحليات التي فاق فسادها ما بعد "الرٌكب"، كما أطلقها الدكتور زكريا عزمى من قبل.

صحيح التعليم عليه دور، إلا أن الحسم الإداري وتطبيق القانون على القوي والضعيف من أهم أدوات ضبط الأخلاق، ويكفينا أن نستدل على ذلك بما حدث عندما انقطع التيار الكهربائي عن مدينة المال في العالم (نيويورك)، ونعرف حجم النهب الذي تعرضت له المحال والشركات والمنشآت العامة، في غفلة القانون تصبح البلطجة والفهلوة والتهليب هي وسائل القوة والقدرة والسيطرة.

"سُياس" الشوارع ومحترفو احتلال النواصي، ودواليب المخدرات على قارعة الطريق.. كل هذه الأمور ترسخ لحالة غياب القانون، ودولة بلا قانون تتحول إلى غابة، والنخيلة، وماحدث فيها من وقائع، أكبر دليل على أن زواج الفوضى من ضعاف النفوس في الدولة قد يسبب ما لا تحتمله أوضاعنا، ونحن في معركة مع إرهاب أعمى، وتخريب مخطط له، وفق مؤامرات تدار وتحاك من مخابرات دول تملك المال والعتاد، ولديها قدرات في إثارة الفتن.

الاعتداء المتواصل على النيل من الكبار والصغار، من ردم لمساحات في نيل العاصمة، وصرف صحي على شريانه في القرى، وإلقاء المخلفات من كل حدب وصوب، أليس كل هذا اعتداء على الحياة؟! ألا يعتبر ذلك جرمًا يساوي جرم القتل والتخريب والتدمير لهبة مصر ووريدها الذي يمدها بالحياة..

كل هذه المظاهر الفوضوية تحتاج إلى تكاتف الجهود، وانتباه الدولة وصناع القرار، وليكن همنا الأكبر إعلاء مبدأ سيادة القانون، ولا شيء غيره لنضمن لُحمة وقدرة على شيوع الأمن والأمان، فالأمن ليس أغنية نرددها، بل هو إحساس ونعمة يستحقان منا الثورة ضد الفوضى.
الجريدة الرسمية