رئيس التحرير
عصام كامل

هروب جماعي إلى الأمس!


هل الهروب إلى أمس مرض أم دواء وعلاج؟ هو كل ذلك. نهرب إلى العمر الفائت، إلى لحظة مرت، إلى صورة عبرت، إلى عطر تسكع في ذاكراتنا، ونفعل ذلك كله طلبا للراحة، وعلاجا من أزمة داهمة ضاغطة حالية. كلنا نستدعى ذكريات لأحداث وقعت في سنوات مضت، ورغم قسوة الأيام المصاحبة لتلك الأحداث، فإن من بينها ما يسطع مشرقا في النفس يملؤها خيرا وجمالا.


في أحيان أخرى يصبح الفرار إلى الماضى مرضا مطلوبا لذاته. وتلك من الحالات الاستثنائية في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.

ومن السهل بحق ملاحظة حالة الهروب الجماعي للمصريين إلى الماضي، بحثا عن راحة وطمأنينة، وهذا هدف ظهرى، لكن المحرك الأول لهذه الهجرة الحاشدة هو استعادة الهوية وملامح الشخصية المصرية.

الشخصية المصرية في الوقت الحاضر ومنذ ثمانية أعوام تقريبا تبدو غريبة وشائهة، متوحشة، فجة، عدوانية، فصامية، تصلي وترتشى، طلوقة في سيارات مجنونة معربدة. في أوقات الكوارث والتحولات السياسية العنيفة، تنهار معايير الضبط الاجتماعي وتتداعى ثوابت دينية ويقع المجتمع في بئر التبرير والتحليل، وتزدهر أسواق الإفتاء.

ويمكنك أيضا ملاحظة أن المحترمين لزموا منازلهم وكنباتهم، وهم اكتفوا باستعادة الماضى والعيش في ظلاله. ولعل هذا ما يفسر النجاح الفجائي لقنوات "ماسبيرو زمان"، في الراديو وفي التليفزيون. كلاهما حقق معدلات مشاهدة واستماع لم تتحقق لقنوات ضخمة، فشلت بما تقدمه في إقناع الناس بأنه يعبر عنهم ويمتعهم ويرتقي بمشاعرهم ويجعل حياتهم أكثر جمالا.

ذهب المصريون إلى ثلاثين سنة مضت، وما بعدها، أو ما قبلها، ليستردوا نجومهم ومسلسلاتهم وموسيقى المسلسلات والأغاني، وليعيشوا مع المذيعين والمذيعات الذين تابعوهم وأحبوهم. يفعلون ذلك لأنهم ليسوا فقط في شوق لهؤلاء النجوم وازمانهم، بل لأن كل واحد منا في شوق لاسترداد عمره الذي مضى وانقضى، فإن رأى من جديد مسلسلات الأبيض والأسود أو الملونة، عاش عمره شابا من جديد.

حسين فهمي ومحمود ياسين ونورالشريف وحسين الشربيني وعادل إمام ويوسف فخر الدين وفاتن وشادية ومديحة كامل وهند رستم ومريم فخر الدين وسهير المرشدي وجميل راتب وعادل ادهم وأحمد مظهر وفريد شوقي ورشدي أباظة وتوفيق الدقن ومحمود عبد العزيز ونبيلة عبيد وإلهام شاهين ونجلاء فتحي، وغيرهم وغيرهم.

أعمال جادة ونصوص مدروسة وضعها موهوبون وأساتذة في الدراما والسينما. أعمال أثرت الدراما التليفزيونية لصديقي الراحل أسامة أنور عكاشة، وأعمال محمد جلال عبد القوى ومحمد صفاء عامر، وبالطبع أعمال يسرى الجندى، وعبد السلام أمين وغيرهم كلها تنتمي لأعمارنا الفائتة، استولت على مشاعرنا وملأت عقولنا إبهارا وفنا.

نعم.. رب ضارة نافعة، لقد سقط الموسم الدرامي الرمضاني هذا العام على نحو مخجل، لسوء التخطيط ولسيطرة الاحتكار، ولغياب النصوص الأصلية، ولشيوع السطو على نصوص درامية عالمية معروفة عبر نتفلكس، وكان هذا السقوط سببا في عزوف الناس عن ملاحقة ممثلين ينطقون عن ثقل ذوق وثقل دم وسخافات.

وهكذا كانت "ماسبيرو زمان" هي آلة العودة في الزمان والسفر إلى الماضي والاستئناس بمن أحببنا من النجوم في الإعلام والرياضة والسياسة والفن.

حقيقي.. فشلكم أسعدنا لأنه ساعدنا على العودة إلى أجمل سنين عمرنا. هربنا إلى الماضي من حاضر ضحل الموهبة سقيم الوجدان..
الجريدة الرسمية