رئيس التحرير
عصام كامل

تحيى القلوب وهى رميم


تسعة وستون عامًا مضتْ على رحيل الشيخ "محمد رفعت". فيما مرَّ على وفاة الشيخ "محمد صديق المنشاوى" خمسون عامًا. بينما انتقلَ الشيخ "مصطفى إسماعيل" إلى جوار ربه قبل واحدٍ وأربعينَ عامًا. أمَّا الشيخ "محمود خليل الحصرى" فقد ترجَّل عن صهوة جواده منذ تسعة وثلاثين عامًا. فيما رحلَ الشيخ "محمود على البنا" عن دنيانا قبل ثلاثة وثلاثين عامًا. وبفارق عامين فقط عن الشيخ "عبد الباسط عبد الصمد".


ورغمَ هذه السنواتِ الطويلة والمتفاوتة من الرحيل، إلا أنَّ أصحابَ هذه الأسماء لا يزالون خالدين خلودًا أبديًا في ذاكرة وقلوب المصريين وكلِّ من يهفو قلبه إلى الاستماع إلى كتاب الله تعالى، بأصواتهم النديَّة التي شيدتْ أعمدة دولة التلاوة، وجعلتْ منها دولة راسخة تتحدى الزمنَ، وتتصدى لشبح الموت البغيض الذي لا يرحمُ ولا يَميزُ خبيثًا من طيب، إنما تبلى الأجسادُ وترحلُ، أمَّا السيرة والمسيرة فلا يرحلانِ.

الخلودُ.. هو سمةٌ أساسيةٌ ومشتركةٌ بين العباقرة والمُبدعين، وهؤلاء أخلصوا وتألقوا وأبدعوا في تلاوة القرآن الكريم، ترتيلًا وتجويدًا، وأسسوا دولة التلاوة العامرة، حتى صار القومُ جيلًا بعد جيلٍ يقولون: إن "القرآن الكريم نزل في مكة وقرئ في مصر".

مَنْ يقرأون القرآنَ الكريم في مصرَ وخارجها، لا يُحصوَن عددًا، ولكنْ من ترتاحُ لأصواتهم الآذانُ، وتطمئن لهم القلوبُ، وتهدأ لهم النفوسُ، قليلون جدًا، أضفى اللهُ على حناجرهم نفحة ربانية ميزتهم عمن سواهم، فصاروا نجومًا زاهرة وكواكبَ سيَّارة.

تمضى الأيامُ وتتعاقبُ السنونَ، ويأتى قراءٌ ويرحلُ آخرون، غيرَ أنَّ أصوات "رفعت" و"إسماعيل" و"المنشاوى" و"البنا" و"الحصرى" و"عبد الباسط" تبقى أصواتًا مُفعمة بالحياة والشموخ، تشعرُ في كل مرة تسمعها كأنها المرة الأولى، أصواتٌ تُحيى القلوبَ وهى رميمٌ، وتغسلها مما اعتراها من صدأ، واعتلاها من قُبح، وسكنها من غِلٍّ، وتوطنَّها من حقدٍ.

كثيرون كتبوا وحللوا وفسروا، فمنهم من قالَ: إنها أصواتٌ من السماء، ومنهم من كتبَ: إنها أصواتٌ تُحبها الملائكة، ولكنَّ أيًا منهم لم يفكَّ شفرة هذا الخلود، ولا سرَّ هذا الإبداع، وكأن الأمر لا يتطلبُ تفسيرًا، سوى أنَّ اللهَ اصطفى هذه الحناجرَ، وحمَّلها أمانة تلاوة قرآنه المجيد، فأدَّتْ الأمانة على أكمل وجه، فمنحها اللهُ شيئًا من خلود كتابه الكريم، حتى بعد رحيلهم بسنواتٍ وعقودٍ طويلةٍ.

ولأنَّ "رمضان" هو شهرُ القرآن الكريم، وفى أيامه ولياليه، يقبلُ الناسُ على القرآن الكريم قراءة واستماعًا، وتأتى هذه الأصواتُ الخالدة في موعدِها لا تُخلفه ولا تُخطئه، تقرأ وتُبدعُ وتتجلى، لتنقلك من عالمِك الأرضى إلى عوالمَ أخرى من الصفاء النورانى والتجلى الروحانى.

إنه إبداعٌ منْ طرازٍ خاصٍ، يُحيِّرُ أولى الألباب، ويجعلهم مشدوهين، لا يملكونَ إلا أن يقولوا خاشعين: "سبحان اللهِ، ما شاءَ اللهُ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله"، إبداعٌ يستعصى على عقول عباقرة الموسيقى، وأساتذة القراءات.. أدام اللهُ خلودَ أصحابه بخلود القرآن الكريم، وجعلَ مقاعدهم في الجنة في أعلى عِلِّيينَ، جزاءَ إخلاصِهم لكتابهِ المجيد.
الجريدة الرسمية