رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

الولد الذي قال لأمه «لا»


في السادسة من عمري قلت لأمي إنني على أعتاب السنة الدراسية الأولى في تاريخي الذي لم يكتب بعد، وسألتها «أبذلك أكون قد كبرت يا أمي؟»، فابتسمت وربتت على كتفي، وقالت: «لا»، فتعجبت متسائلًا: «ومتى أكون!»، فعاودتني بالرد وبذات الابتسامة: «حين تكبر».


استدرت كي أعود إلى غرفتي، فباغتتني أمي بسؤالها: «هل أنت راضٍ عني؟»، فقلت «نعم». في كهفي الصغيرة، انزويت في ركن لا يسع أحلام طفل تنمو مساحة الدهشة في صدره كشجرة لبلاب، ورحت أكتم الدموع في عيني، إذ أصابتني كلمات أمي بالوجع، غير أنه لم يكن لي أن أجاهرها بما يحدث في صدري، فهذه أمي..

نسيت أو ربما تناسيت ذلك الموقف، ومضيت في طريقي، وحين أنهيت دراستي الجامعية، وقفت كفاتح عظيم اجتاز البحار والأنهار والحدود، ليحرر مدينته المسلوبة، وسألتها: «أبذلك أكون قد كبرت يا أمي؟»، لكنها عاجلتني بابتسامتها – التي رغم عزوبتها تقتلني – وقالت: «ليس بعد».. ثم سألتني إن كنت راضيا عنها فأجبتها مجددًا: «نعم»..

مرة أخرى، لملمت ما تبقى في من حياة، وانزويت في كهفي الصغير، الذي لم يعد كافيا لاستيعاب أحلام شاب ما زال يحلم في ليله ونهاره، وأبت الدموع أن تنساب من عيني، فقد علمني أبي أن الرجال لا يبكون..

مرت السنون والتحقت بوظيفة مرموقة، وظيفة يحلم بها نصف أبناء جيلي، بينما أضاع أبناء الجيل الذي يسبقني أعمارهم بحثا عن مثلها..

حدثتني نفسي قائلة «الآن أنت كبرت.. اذهب لأمك واسألها ستؤكد لك»، فترددت كثيرا، إذ خفت هذه المرة إن قالت أمي إنني لم أكبر، بعد فربما يبدو على الغضب، وأنا لا أريد أن تراني أمي غاضبا يوما، خاصة إذا كانت هي سبب غضبي، لكن بعد إلحاح نفسي متزايد، اضطررت إلى أن أجرب حظي لمرة أخرى..

«أبذلك أكون قد كبرت يا أمي؟».. هكذا سألت أمي، لكنها لم تبتسم هذه المرة، وكررت ما سبق، فجرجرت أذيال خيبتي ومضيت إلى خزانتي التي أحتمي فيها كلما خاب أملي..

هذا الكهف يشبه رحم أمي، فيه أتكور وأنفصل عن العالم..

وكما في كل مرة، مرت الأيام مشكلة أشهرا وسنوات جديدة، وخلالها أحببت فتاة، بمباركة أمي، وتزوجتها، وحين سألت أمي سؤالي الأزلي، أجابت بذات الطريقة الأزلية، ولما لم أكن قد بنيت أحلاما جديدة هذه المرة في أن أنال إجابة مختلفة تشفي صدري، مضيت برفقة زوجتي وبت في حضنها الذي يبات كهفي الجديد..

في كنف امرأتي الجديدة عشت سنوات، انتفخ بطنها غير مرة لكنها لم تلد لي الطفل المنتظر، إلى أن وصل ولي العهد سالما، فحملت طفلي على كتفي وأسرعت إلى أمي التي كانت رابضة في غرفتها كمتثال من المرمر نحته الأجداد، فوضعت طفلي بين يديها، وسألتها «أبذلك أكون قد كبرت يا أمي؟»، فنهضت كشابة عفية، وهزت رأسها نافية بابتسامة جامدة، ثم سألتني «هل أنت راض عني؟»..

للحظة كان الصمت إجابتي، لكنه لم يدم، إذ كان ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة.. في لحظة واحدة استجمعت غضب السنين، وانفجرت في وجهها صارخا: «لا يا أمي.. لست راضيا»، وهنا انفرجت أسارير المرأة العجوز واستعادت عافيتها تماما، ثم اقتربت مني واحتضنتني قائلة: «اليوم كبرت يا بني.. سيرتك الذاتية هي مجموع المرات والمواقف اللي قلت فيها لأ».
Advertisements
الجريدة الرسمية