رئيس التحرير
عصام كامل

الحادث الأخير


تتكرر حوادث القطارات.. لا يمنعها تغيير وزير أو يوقفها إقالة حكومة.. تقوم الثورات وتسقط الحكومات وتبقى حوادث القطارات هي القاسم المشترك.. مقرر إجباري علينا أن نتقبله.. ولأن الحوادث البشعة مكررة ومقررة علينا طوال العقود الماضية أصبح من العادي أن نكرر الكلمات والمقالات.. فإليكم أجزاء من مقال قديم أتمنى ألا اضطر قريبًا لتكرار نشره..


(قبل قرابة 160 عامًا كانت السكك الحديد لا تزال في بداية عهدها عندما قرر رئيسها مستر جرين - وكان شقيقًا لقنصل إنجلترا في مصر- أن يستقيل، فأسند الوالي رئاستها لنوبار بك الذي جاءه في أول أيام عمله خبر تصادم قطارات، وبعد التحقيق اكتشف أن الإنجليزي المستهتر سائق القطار الأول خرج بالجرار في جولة، دون إذن، فاصطدم بالقطار الثاني!

كان هذا الحادث رسالة كافية ليفهم نوبار بك أن نجاحه مقرونًا بوضع نظام صارم للعمل يقضي على الفوضى، وعندما هدد السائقون الأجانب بالإضراب عن العمل، أقالهم وسمح للمصريين للمرة الأولى بقيادة القطارات، وهو الأمر الذي أفزع الوالي وجعل بعض الأمراء يعلنون عدم استخدامهم للسكك الحديد مجددًا، بينما اضطربت أوروبا من القرار، فاحتج رسميًا قنصلا إنجلترا وفرنسا، بجانب وزير النقل والمواصلات الإنجليزي، وأجمعوا على رفضهم لقيادة المصريين للقطارات، باعتباره خطرًا على كل ما يسير على السكك الحديد!

ومع تمسك نوبار بك بقيادة المصريين للقطارات بعد أن حصلوا على التدريبات اللازمة، وأثبتوا كفاءتهم وفق منظومة عمل ناجحة، ونتيجة لرفضه التراجع والاعتذار عن قراره، فقد سكت الجميع بينما ختم القنصل البريطاني حديثه قائلًا: "طالما أنت على رأس الإدارة سأكون مطمئنًا بأنه لن يحدث أي إهمال، لكن من يعرف كيف سيكون خليفتكم؟!".

تعاقب الخلفاء والمسئولون على إدارة السكك الحديد إلى أن وصلنا إلى الحادث الأخير.. ولأن أحداث التاريخ تتشابك كامتزاج عناصر المادة الواحدة، فإن المصائب تحمل الآسي في ظاهرها، بينما تحتفظ في قلبها بالأمل في التغيير بشرط استيعاب خلل المنظومة بأكملها بداية من الإشارات التي لم يتم استكمال تحديثها حتى العنصر البشري الذي يبدو إنه لم يحصل على التدريبات اللازمة منذ زمن أسرة محمد على!

كان الحادث مفزعًا أكثر من تخوفات الوالي والأمراء والقناصل مجتمعين، وهو ما يجعلنا نتمسك بالأمل في ضرورة اعتبار تطوير السكك الحديد هدفًا قوميًا، يلزمه توفير التمويل اللازم لخطط التطوير التي إذا عجزت ميزانية الدولة عن الإيفاء به، فالكثيرون لديهم الاستعداد للمشاركة والدعم سواء بصيغة اكتتاب شعبي أو غيرها من الطرق حتى لا نفقد ضحايا آخرين أو نضطر لإرسال اعتذار لأوروبا بعد قرابة قرنين من الزمن!).
الجريدة الرسمية