رئيس التحرير
عصام كامل

البحث عن نخبة جديدة


جاء على مصر حين من الدهر كانت جنباتها تزدحم بألوف من المبدعين والمثقفين والعلماء والفلاسفة والسياسيين والفنانين والصنايعية المهرة، وكل هؤلاء كانوا نتاج الفترة الليبرالية التي سبقت يوليو ٥٢، عندما كانت في هذا البلد حرية صحافة وأحزاب وتداول للسلطة، ونزاهة في الانتخابات، وكان المناخ العام مهيأ للإبداع. 

ذلك أن القانون الذي يحكم تطور أي مجتمع أنه لا إبداع بدون حرية، ولذلك كانت مصر هي الملجأ والملاذ الطبيعي للأمة العربية، ولا يصبح الفنان معترفا به إلا بحصوله على التأشيرة من المستمع المصري، ومعظم السياسيين المضطهدين كانوا يلجئون للقاهرة حتى صار الفن المصري يسمى بالفن العربي. 

وأيامها كان الحكي المصري هو الأجمل والأروع، واللغة الرسمية للعرب، وكانت ولا تزال الفلوس تسمى مصاري، وإذا حاولت أن أذكر بعض أسماء المبدعين في أي قطاع فسوف يحتاج إلى مئات المساحة الممنوحة، حتى جاء على هذا البلد حين آخر تم تجريف معظم مساحات الإبداع والحريّة، وتم تأميم السياسة والإعلام والفن والاقتصاد، فلم تعد لدينا نخبة حقيقية كانت تعطي لهذا البلد وزنا وطعما وقيمة. 

ولم يعد الرجل المناسب في موضعه، وسادت قيم الفهلوة والأونطة، ولذا خرج من يحترم نفسه من تلك الدوائر المشبوهة، وقد كان المشهد مسيئا وكبار النجوم المصريين في حضرة مستثمر خليجي، يتم النداء بالاسم ليذهب لتوقيع عقد عمل، ثم كان المشهد أكثر ارتباكا، ونفس المستثمر يبث يوميا الفتن بين جماهير الكرة بمساعدة بعض المؤلفة جيوبهم من الرياضيين والإعلاميين. 

وما جرى باختصار شديد هو أن ٢٥ يناير خلقت نخبة جديدة مهترئة، وهي نتاج حرث الأرض لتطهيرها، فخرجت الديدان على أمل أن تشرق الشمس وتتطهر الأرض، فكان أن غابت الشمس وبقت الديدان تشكل هذا المشهد الراهن الفقير المرتبك في السياسة والإعلام والاقتصاد والرياضة والفنون. 

وكانت النتيجة هي الصفر في تصفيات كأس العالم، وبزوغ مجدي شطة والسبكي وهيفاء وأخواتهم للأسف، وأصبحنا تستورد كل مستلزمات الحياة اليومية، وبينما تنجح إسرائيل في تصنيع مركبة فضائية للقمر لا زلنا نستهلك عمرنا في غث الأمور كفحش التصريحات الرياضية وارتباك اتحاد الكرة، وجهاز الكفتة. 

لم تتعلل إسرائيل بحروبها المستمرة لقمع الحريات وقتل الديمقراطية، ولديهم كنيست يسقط الحكومات ويلتزمون بدستور غير مكتوب، بينما "نيجيريا" من أكثر الدول الغنية بالثروات والمعادن، ومن أكبر دول العالم المصدرة للبترول، ولكن أنظر إلى حالها ووضعها، والسبب أن الإنسان فيها مشبع بالأحقاد العرقية ومحمل بالصراعات، بينما سنغافورة البلد الذي بكى رئيسه ذات يوم، لأنه رئيس بلد لا توجد فيه مياه للشرب! اليوم يتقدم بلده على اليابان في مستوى دخل الفرد!

في عصرنا الحالي الشعوب المتخلفة فقط هي التي ما زالت تنظر لباطن الأرض ما الذي ستخرجه كي تعيش، في الوقت الذي أصبح الإنسان هو الاستثمار الناجح والأكثر ربحًا، ولأن كل أمة تستحق أبناءها لأنهم نتاج تربيتها، والنخبة الحالية نتاج تربية جيل تربى في عهد سماسرة الكلمة والسياسة والضمائر والمصائر، باعوا ماضيه وحاضره ومستقبله، جيل تربى في عهد عري وعهر الفضائيات. 

جيل اغتصب حقه في كل شيء (باعوا له الحلم..)، جيل يعاني فراغا سياسيا ودينيا واقتصاديا.. جيل لا يجد الحلم في بيت ولا في عمل ولا في وطن، وإذا أردنا الإصلاح فليس هناك سوى التعليم والإبداع والحريّة والتسامح خاصة مع الأغلبية الحائرة بين كل الأقليات المتطرفة سياسيا ومذهبيا، وتلك الأغلبية في حاجة لتتبلور في مشروع سياسي ديمقراطي يرفض الديكتاتورية في كافة تجلياتها، ويرفض الوصاية على الشعب في كافة أشكالها، مشروع يتسع لكل المصريين، ويتسامح مع التعدد والتنوع والاختلاف، ويقوم على العصب الرئيسي لجملة الحريات والحقوق والواجبات العامة المنصوص عليها في الدستور. 

الجريدة الرسمية