رئيس التحرير
عصام كامل

مشروعي الاستثماري الأول (5)


النهاية.
مضى زميلي كبير المنافقين في عصره عبد الغنى عبد المنعم، يسرد علي ونحن على رصيف نقابة الصحفيين قصته مع القزم المكير، الذي طغى واغتر وأغوى فكان الطوفان الجارف الذي هز الأركان وزلزل النظام، وعصف بالأوتاد وتدا بعد وتد، وحبس الأوغاد وغدا بعد وغد!


قال لى وهو شامت ونفسه في حسرات:
- إحنا معملناش أي حاجة غلط. هم اللى كانوا بيحبوا الأكلة دي!

سألته في استغراب:
- أكلة إيه؟ المسقعة؟
- لا الكوسة! اصحى معايا يا عم الركين.

- حتتريق؟ مانتا كمان راكن معايا أهو ومقاسمنى ومشاركنى الرصيف!
فرد ساخرا:
- أيوه رصيف التسول الشيك!

- ما علينا ياعم.. قول أكلة إيه؟
- أكلة متخشش المعدة... بتخش على الدماغ تعمل دماغ.. تنفخه وتخلى الجسم كله في حالة نشوة.

- كنتم بتديهم إيه؟

- كلام! همه بيحبوا الكلام المسكر المخدر الملون المزوق.. زي ما الكلمة الوحشة بتسود العيشة وتعكر الدم وترفع الضغط.. الكلمة الحلوة بتنزل الضغط وتروق الدم وتظبط الدماغ! كنت فاهم سر السحر الكاسح ومارسته وكسبت به القلوب فالجيوب.
على فكرة النفاق مش عيب.. لأنك بتعطى للمريض الدوا اللي يروقه!

- هو طالب النفاق مريض؟

- طبعا! أومال بس لازم تعرف إنه مفيش طالب نفاق.. دي حاجه مش بتتطلب، دي حاجة أنت بتحسها.. وهنا بقه الموهبة والططتش اللى ربك بيخصك به.. موهبة تخليك تعرف مثلا أن السلطان جعان.. حنية.. نفخ.. انتشاء.

- وأنت عندك البضاعة دى كلها؟

ضحك عبد الغنى:
- كان عندى.. أرزاق! راحت مع زوال السبب!

- السبب؟

- آه! البضاعة راكدة.. في ناس تانية دلوقتى الشيطان نفسه بيسجد لهم. الشيطان تلموذ (ضاحكا بجنون) رضيع. الشيطان طالب ياخد عندهم دروس خصوصية. نفاقهم محصلش.. يااااه كم أنا وجيلي كنا تافهين. العيال بتوع دلوقتى سحرة بحق وحقيق.

اقترحت عليه:
- طب ما تيجي ناخد درس خصوصي؟ مش العيال دي برضه تربيتك وتربية الواد القزعة المكار؟

قهقه فكح ثم قال:

- كنت مفكر إنى عامل أولياء عهد لي.. طلعوا جبابرة عناتيل وعلى تقيل.
- برضه همه عيالك وعيالهم.

- لا يا ساذج! همه نادي سرى مقفول ميفتحش غير للى هم عايزينه. ممكن يدخلونا على سبيل الإذلال.. وسكت برهة ودمعت عيناه، وقال بصوت كسير:
- قعدتنا هنا مرميين على الرصيف قدام النقابة اللى كانت بتتهز تحت ضلي وأنا داخل عليها.. مش شايفها إذلال؟ مادة إيدك وأيدي لـ"زينهم" وأبوه "زين" وللزباين وللعيال اللي بقت راكبه عربيات مركبنهاش من مؤسساتنا.. مش شايفها إذلال.

تأثرت بكلماته لكنى فكرت قليلا ثم قلت:
- شايفها عقاب مستحق! أنا لم أمارس النفاق.

عاجلنى:

- من خيبتك.. واهوه دخلت في العقاب.
تأملت.. وقلت وأنا أنهض عنه إذ لمحت سيارة حائرة تبحث عن ركنة:

- المهنة ذاتها النهاردة عقاب للشرفاء وثراء للدخلاء.

- اهوه ده اللى أنت وأمثالك شاطرين فيه، شوية سجع على شوية تورية وتلقيح كلام زي النسوان!
كنت انتهيت تقريبا من إرشاد السيارة إلى الركنة المناسبة حين ثقبت أذني كلمة نسوان.

عدت إليه مملوءا بالغيظ والإهانة، وعلى نحو ما اعتبرته مسئولا عن الوضع الذي صرت إليه، والحقيقة أنى كنت واعيا بذلك منذ البداية، لكنى كنت في حالة رماد محتقن، تمكن هو ببراعة غبية من إعادة إشعالي.. وهكذا رحت أقول له:
- لولاك وأمثالك من المنافقين والأفاقين واللصوص ما كانش بقه ده حالنا!

سخر وقال :

- طب آدينا مشينا.. هم جم... حد بطل استهلاك نفاق؟ حد مبيطلبش نفاق؟ بالعكس الاتنين طالبين بعض!

من غيظى أطبقت بأصابعى على عنقه وأنا أضغط وأقول:
- وأنا طالب روحك.. أنضف الدنيا منكم كلكم.

وضغطت حتى جحظت عيناه.. ومر بنا ناس لم يكترثوا، ونزل من باب النقابة زملاء، ألقوا علينا بضع نظرات وسحبوها، كأنما قطان يتعاركان. أدركت حجمنا عندئذ.

وبينما روح "عبد الغنى" تقترب من الخروج النهائي إذا بسيارة فارهة سوداء عالية تتهادى وتركن موازية لنا، وإذا بصاحبها ينزل قافزا كضفدعة. طبيعي أن ينزل قفزا كضفدعة.

اتسعت عيناي من الدهشة غير مصدق وهتفت من داخلى:
- يا ربي ياربي.
قال لي القزم المكار:
- مالكم ؟ بتقطعوا هدوم بعض ليه؟ يالا اركبوا.. كفاية فضحتونا.

كانت قبضتى ارتخت من الذهول بينما عادت الروح إلى ملامح عبد الغنى.. الذي انحنى كالركوع عند قدمى القزم.. وقفز قفزة بهلوانية إلى داخل السيارة، بينما وقفت أنا مترددا، وسألنى القزم بهدوء وثقة:
- مش حتيجي؟
قلت:
- على فين
قال:
- السيد الجديد في انتظارنا!
أعطيته ظهري.. ومضيت إلى سيارة تحاول أن تركن.. ومسحت دموعا نزلت.. وكذلك مسحت زجاج السيارة بجريدة قديمة.. وأنا أمسح رمقتنى صورتى على مقال لي واسمى يزجرني محنقا.
بصقت على الجريدة والصورة والاسم والمقال.. وسقطت في نحيب متصل.. ولا أزال!
الجريدة الرسمية