رئيس التحرير
عصام كامل

مشروعي الاستثماري الأول (4)


كبير المنافقين وأنا على رصيف النقابة!
بينما أنا مستغرق فيما أفعل وفيما أفكر إذا بصوت خشن مبحوح يلسع قفاي كقرصة نحلة مسعورة.. التفت مذهولا ولم يكن ذهولى لظهور "زينهم" ابن نقيبي وكبير الرصافين المعلم "زين الزين"، بل لأنى رأيت زميلى "عبد المنعم عبد الغنى" كبير المنافقين بصحبته!


معقول؟! أأنت؟! فكرت في الانصراف، لولا أنه لاحقنى وهو يقول:
- تعال تعال تعال حتروح فين؟!
وقفت صامتا، حزينا، هل جاء يشاركني في عشرة امتار من رصيف النقابة نقتات عليها؟ ألم تكن له بناية بحالها ومؤسسة من بابها ورعايا يهرولون ويتمسحون وتشريفة تسبقه وتشريفة تودعه؟!

كان يتفرس وجهى كأنما يتبين حاله في ملامحى، أو كأنما يشاهد ما أحدثه الدهر بى وبه. على أية حال، سمعت "زينهم زين الزين" يوصينى في صوت متحشرج لا يتسق وقامته النخلية وعرض كتفيه اللوحيين، قائلا:

- المحترم ضربه الزمن زيك بعد ما كان له شنة ورنة. وسع له. انت عربية وهو عربية. عربية أنت تاخد أجرة ركنتها وهو عربية ياخد ركنتها، واوعوا تتخانقوا، عشان عيب انتو ناس كبار زي ما بويا موصيني، لولا وصيته كانت المعاملة لا مؤاخذة تبقى كده!

وشفع آخر حرف من كلمته بصفعة مدوية على وجه شاب مقهور كان برفقته فهمت فيما بعد أنه مسحوب للضرب وليكون عبرة!
تبادلت النظرات و"عبد الغنى"، واتفقنا في صمت أن نتجاوز المشهد السقيم، وقال "عبد الغنى":

- مفيش مشكلة.. أنا راض بقسمة الحاج "زين".. وأظن زميلي كمان موافق؟ مش كده يا "ألفى"؟!
قلت بسرعة:
- طبعا احنا منكسرش أبدا كلام المعلم وابنه.. أي عربية تحط حنقسمها سوا!

وضحكنا كلنا وطبطب علينا "زينهم" في أبوية كأننا أولاده الصغار، واستدار ساحبا صبيه. وجعل يلتفت نحونا من وقت لآخر قبل أن يركب توكتوكه المعتبر، زينه بألوان الأصفر والأحمر والأسود. لأول مرة انتبهت أن "عبد الغنى" الكاتب الكبير سابقا، تفنن في ملبسه كركين مثلي كما كان يتفنن ببراعة في منافقة "أحمد عز"! الحقيقة اختلط الكاكي على البنى مع الزيتي والرصاصي وسترة صفراء اختلاطا عجيبا فوق قامته القصيرة. البنطلون والفانلة والتلفيعة والطاقية على شكل قمع غطت ما تحت أذنيه. لاحظت أنها ملابس تنكرية، أن يراه شامتون بالنقابة ممن تبوأوا الكراسي المهنية، فجعلها بعضهم كراسى صرف صحى!

سحبنى "عبد المنعم عبد الغنى" في تودد المكسور، وجلسنا على الرصيف المقابل، حيث نصبة شاي وقهوة، ومع رشفات الشاي ولسعات البرد. كنا وحدنا تقريبا لأن بائع الشاي كان في غيبوبة مع سيجارته ذات الفاه الأزرق المضيء. تفحصنى برهة ثم قال:
- عاملة إيه الدنيا معاك؟

ابتسمت ساخرا:

- انت مش شايفنا احنا الاتنين قاعدين بنشحت فين؟
هز رأسه وقال في همس:
- عارف جواك ايه! أنا عملت فلوس كتير بس خدوها منى بتوع الكسب..

انت معملتش حاجة؟

قلت:
- اعمل منين انتو خليتوا لحد حاجة؟!. ده جرنال مالوش صاحب، مولود تجميع !

استغرب:
- تجميع؟ تجميع ازاي؟
- آهو أب من هنا وأم من هنا وقرش من هنا وقرش من هناك. والقزعة إلهك اعتبره عدوه!

ذهبت ملامحه حسرات وهمس:
- القزعة القميئ ضيعنا وضيع البلد!

قلت في حسم وبصوت عال وأنا أغادره لأركن سيارة تبحث عن مرفأ على رصيف النقابة:
- نسيت أنك واحد من عشرة كانوا له راكعين؟

لم أهتم بماذا أجابنى، لكن صاحب السيارة نزل وهو يتفحصنى، مرتابا في هيئتى، ولما عاجلته بسؤال:

- ازاي ربنا يساوى بين منافق، وبين اللي مش منافق؟ هل يصح يجمعهم رصيف واحد يتسولوا عليه؟!

لم أكن في الحقيقة أنتظر جوابا، ولا حتى نظرت وجه الراكب الذي دس جنيهين ورقيين حقيرين في بطن كفى. من غيظي بعدما أدركت قيمة المدسوس بيدي، رفعت نظرى لأراه. كان له وجه ضفدعة. وله ذقن طويل وجسد قزم مدملج أملس. لما نزل من السيارة كان عملاقا بفعل انتفاخ داخلى.

قال لى وهو يبتعد:
- شكلك مش غريب على.

فقلت وهو يبتعد:
- وأنت شكلك من رموز المرحلة. مسيرك هنا معانا. محجوز لك رصيف!

وأطلقت ضحكة هائلة في الشارع الصامت، أعقبتها كحة متصلة. عدت لجلستى عند نصبة الشاى حيث سقطت رأس "عبد الغنى عبد المنعم" على صدره كالنائم. دسست في يده جنيها، فقبضت كفه عليه وتحركت منفصلة عن وعيه ودخلت في جيب سترته ودست الجنيه، وبعد دقيقة سمعته يردد:

- احنا برضه افترينا قوى.. ماكانش النفاق بإخلاص كفاية!
من شدة تحديقي في وجهه، فتح عينيه، وابتسم:
- اه والله زي ما بقولك كده.. اسمع يا سيدي وافهم!
ورحت أصغى إليه..
الخميس نستكمل دروس محو الشرف وممارسة قواعد النفاق.
الجريدة الرسمية