رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

مشروعي الاستثماري الأول (2)


رصيف شارع الأنس:
زبون آخر الليل عادة من النوع الرايق. لامع متحنف مشنتف، رجل خارج لينفق ولينبسط، لا يحسبها ولا يعكر دمه، وهو عادة مع حبيبة أو صديقة، ونادرا مع زوجته.


اشتريت صفارة، سعيد أنا جدا بهذه الصفارة. انقطع نفسي في بداية التصفير، وخرج صوت الصفارة متقطعا لاهثا، فأدركت أن شعبي الهوائية ملغمة!.. نفعتني الصفارة من عدة نواح، أولها الإحساس بالقيادة، وليس ثمة مبالغة في هذا الشعور، فأنت لا تختلقه، بل يطرأ عليك بمجرد نفخة هواء قوية متصلة في اتجاه سيارة تركن أو تتهيأ للفرار حتى لا تدفع أجرة حراستي لها! حين أصفر تفرمل وتخر واقفة.. ويدفع الباشا صاغرا. شعور بالسلطة لم يحققه قلم... أمتهنته فأهانته مهنته!

حلمت بهذا كله وأنا في طريقي إلى كبير الرصافين حامل مفاتيح التراخيص لمن أراد الاسترزاق.. وقعت عيني على شارع جانبي هادئ متفرع من شارع داخل شارع خارج شارع في أدغال المهندسين عيني عليه. اخترته بعد فحص وبحث. لابد إذن من التفاوض مع كبير الطائفة. السيد كبير الرصافين. هذا منصبه. عثرت عليه في مكتبه، على مقهى عفونة الشهير بإمبابة كان يجلس على ترابيزة معدنية مسطحها بحجم الجنيه المعدني، تهتز مثله، من لمس كوب الشاي فوقها وبجوارها وقفت شيشة خامدة..

أقبلت عليه في ابتسام يصطنع ودا، وقلت كأنى أعرفه من زمن:
- أخيرا لقيتك يا بركة!
- بركة؟

-وبركتين كمان.. أنت الكبير.. دلونى عليك إخوانا على رصيف العجوزة..
- آه اللي قدام مستشفى الشرطة؟ ولا القضاة؟
- لا اللي قدام المطعم الكبير بتاع السمك.

ولما وجدنى سحبت الكرسي وجلست انتبه، فسألنى متشككا وهو يراجع شكلي وملبسي:
- خير؟ أي خدمة يا أخ؟

قلت في مودة صادقة:
- خير والله خير.. مزنوق في رصيف!
- أي رصيف؟
- رصيف الأنس.

-بتاع المهندزين؟ ماله؟
- عايزه.
لاحظت الاستغراب ثم الأسى في نظراته، مختلطا برفض، فلما هززت رأسي لأجادل قال والسيجارة معلقة بين أصابعه الجافة السوداء كعود كبريت محترق اصفرت حوافه عند الأطراف:
- أنت لا مؤاخذة مش مننا. إيه اللى رماك علينا. شكلك غيرنا خالص.

- شكلي ماله بس؟
- لا أنت مش متبهدل كفاية.
- والله ع الآخر.. بهدلني يا أخى. أرجوك بهدلنى. أنا وش بهدلة. ميهمكش شكلي من بره. من جوه أنا متبهدل متغربل زي ما أنت عايز!

- من جوه ما يحننش الزبون. اتبهدل كفايه من بره.
ثم سكت وبعد دقيقة نطق في زهق:

- السيفود بتاعتك إيه؟
ضيقت عيني مستفسرا:
- نعم؟ مش فاهم قول تاني.

- بقولك السيفود بتوعك إيه.. مؤهلاتك ايه؟
- آه ! فهمت كنت ببيع كلام...

فكر أني أمزح؛ فضاحكنى مسلما:
- كداب زفة يعنى... لا مؤاخذة مصقفاتي في الأفراح..
- لا في الجرايد.

- كنت كداب زفة في الجرانين؟
- لا كنت في الزفة بس معرفتش أكدب الكدب المناسب..
بدا في النهاية أنه غير فاهم وصلة الشجن التي داهمتني، فاستخلص قائلا:
- آه.. فهمتك.. صوحفي يعني؟ وإيه اللي حصل منعوها؟ ما هي متلتلة آهى لا مؤاخذة وملفوف فيها البدنجان والطعمية، وبنضف بيها إزاز العربيات بتخليه يبرق زي الفل.

-آه البدنجان والفلافل والإزاز... صح.. صح طبعا.. لا ممنعوهاش. متلتلة على قولك.

وفي أسى قلت:
- أنا اللي منعوني!
- مين دول؟
- اللي منعوني
- يا عم قول متخافش؟!

- بقولك اللي منعوني
- اللي هم مين؟
- قلت لك اللي منعونى!
- على الطلاق ما أنت واخد الرصيف إلا لما تقول مين دول؟ عفاريت خايف تنطق عليهم!

أسقط في يدى، جذبت أذنه نحوى فاستجاب منزعجا وهمست. زعق:
- على الطلاق ما أنا سامع. يا عم قول محدش عاد بيخاف من رب ولا من حكومة.. الناس فجرت!
- ما أنا قلت.

- معلهش قول تانى.. في وشي مش في ودني المسدودة بعيد عنك.
- ما بلاش! بلاش يا كبير.

-أنت دماغك ناشفة وشكلك حتخليني أطلق الولية.

-لا ميرضينيش. أنا حقولك.. اللي منعوني ناس كبيرة قوى، تحسهم ومتشفهمش، يشوفوك ولا تعرفهمشى يسمعوك ولا تسمعهمشي، أهم مزاياهم أنهم مش فاهمين ومش عارفين بس الحقيقة هم مخلصين.. وليهم ناس صغيرة قوى وبرضه مش فاهمة ومش عارفة! دول بقى بتوعهم وحبايبهم. بيسمعوا كلامهم. يقولولهم: شي حا يا حمار. يمين شمال.. اعمل عجين الفلاحة.. نام نووم العازب.. وريني بتاعة القرد الحمرا يوريه.. محدش، حمار أو قرد متنطط يقدر يقول لا.

بدا كأن الرجل أدركه الفهم فهز رأسه، وفتح عينيه وشرع في لهجة يباكتني:
- طب وأنت لا مؤاخذة زعلان ليه.. اتنين مش فاهمين ومتفاهمين وربك جمع بينهم.. حتعترض؟
بهتنى منطقه.. وعاد يسألني:
- رد.. حتعترض؟
هززت رأسى مستسلما:
- لا مقدرش..

قلتها وأنا أنظر إلى السماء في خضوع، فعاد يقول:
- ربك مقدرها كده. عايزها كده. وحتفضل كده. أنت مالك؟
لما رأنى مستسلما تشجع وأخذ يقول:
- اتنين يا اخويا مرتاحين مع بعض وعقلهم قد بعض وفهمهم زى بعض.. لازمتك أنت إيه غير الصداع؟.. سيبهم لغاية ما يقعوا في بعض ولا يخشوا في عمود!

تأملت حكمته القاطعة وبسرعة قلت متحمسا:
- علشان كده جيت لك.. دربنى علمنى واديني رصيف شارع الأنس بالله عليك. فيه ناس حلوة بتوع الليل وآخره...

رشف الرجل الرشفة الأخيرة من كوب الشاي الأسود وتمذذ بها وتمضمض، وأخذ يتفحصني من أول وجديد.
وفجأة..
- بقولك إيه.. خليك في حالك وإحنا في حالنا. أنت مش مننا أبدا.. أنت رجل باين عليك أستاذ وجي تعمل شغل علينا.

أزعجنى ذكاؤه الغريب، وأحسست أننى موضع اتهام لابد من دحضه كأنه مصيبة، فقلت:
- على الطلاق جي اشتغل وآكل لقمة عيش.
عاد ينظر إلى وابتسم يستدرجنى متخابثا:
- هي عايشه ولا ميته؟
- مين هي دي اللي عايشه ولا ميته؟
- اللي بتحلف عليها بالطلاق.
تراجعت برأسي إلى الوراء واتسعت عيناي انزعاجا ورفضا:
- يا راجل حرام عليك. بعد الشر عنها.. مراتي عايشه والحمد لله !
ضحك من قلبه: أصل مراتي ميته..

وانفجر ضاحكا كأنه دبر لي مقلبا سقطت فيه، فجاريته في الضحك وقلت له ممازحا:
- يا بختك.
فعاد يقول:
- عقبالك
وهكذا وجدنا أنفسنا في انفجار من الضحكات، حتى دمعت عيناه فدمعت عيناي كأنى كنت على حافة الرغبة في الضحك، وقلت له من خلال ضحكاتنا بصوت متقطع الحروف:

يعنى كنت بتضحك على وأنا اللي خفت تطلق الوليه وأخرب البيت؟
هز رأسه وخفت الضحك شيئا فشيئا، وقال بعد برهة:
- إزاي بس حتشتغل رصاف لامؤاخذة؟
- لعلمك أنا لي رصيف بالنهار في حتة لوز في المعادى.. عايز بس أدوق قرش الليل!
فاقترح على بوجه جاد:
- طب متاخد الرصيف بتاعكم.
- أي رصيف يا كبير الرصايفه؟
- مش ليكم نقابة!
- أيوه
- نقابة الصحفيين بيقولوا؟

- أيوه مالها..
- ح أعطيك ترخيص تحط على رصيفها!
أخذت أنظر إليه طويلا... وأخذ ينظر إلى طويلا. وعقلى يتدبر كلمته.. أحط على رصيفها..
الزمن حط على بحق!.
نتواصل الخميس..
Advertisements
الجريدة الرسمية