رئيس التحرير
عصام كامل

«التحرير» كسرت حاجز الخوف عند المصريين.. ملتقى الثورات يتحدث عن كواليس الـ18 يوما.. 25 يناير بشارة الأمل.. جمعة الغضب بداية سقوط مبارك.. موقعة الجمل الأبرز.. والتنحي ثمرة النضال (فيديو)

فيتو

أنا لمن لا يعرفني جد الثورات بعمر يربو على القرن وربع القرن من الزمان، أبيت ألا أكون مُخلدًا لأسماء الملوك والأمراء، فأنا صوت شعب ومقصده، ولن أحمل سوى اسم «ميدان التحرير».


هنا أركان أربع للمكان، فالتاريخ والعلم يتكاملان، والدين والسياسة ينسجمان بلا نكران، وبينهما مبنى ضخم يستمد اسمه من الميدان «مجمع التحرير» يختنق فيه قاصدوه من بنى الإنسان، فلا يُسمع لهم صوت ولا تُقضى لهم مصلحة.

ساحتي شاهدة على أحداث جلل بين انتصارات وإخفاقات، طرقات صبغت بدماء أبنائها ممن ثاروا ضد الظلم والاستبداد، حواجز ومجنزرات، أبواب حديدية ومدرعات، وغيرها من تفاصيل، لم تستطع أن تمحو ذات الصورة التي حفرت في ذاكرة المصريين، لشباب وشابات يجلسون معًا على أرصفة الميدان الحانية.

صباح الثورة
في صباح يوم ٢٥ يناير كنت على موعد مع رسل الثورة والتغيير، جاءوا من فضاء لا يعرف القمع أو القيود، إلى فضاء السلطة المليء بالتناقضات، كانت المشاهد تشير إلى أنه لا شيء جديد سيحدث تحت شمس هذه الأرض، إلا أنا كنت أعلم أنه هدوء خاضع كالذي يسبق دومًا العواصف العاتية، وأن تحت الرماد نارا حامية، وأن جمرًا مشتغلًا في النفوس، أوقدته شرارة «بوعزيزي».

عناوين الصحف وشاشات العالم، كانت لا ترى أن ما يحدث في مصر يستحق أن يكون خبرًا رئيسيًا، وخطاب رسمي يؤكد «مصر مش تونس». ساعات وانطلقت المسيرات، في بدايتها كانت بتنسيق بين المدونين وأعضاء الحركات الشبابية، ومع منتصف اليوم فقدت تلك المجموعات السيطرة بعدما انضم إليها عشرات الآلاف من المصريين، جميعهم يقصدون الميدان، وظلت المعارضة التي إما شاخت قياداتها أو تلك التي اتخذت من الميوعة، وسياسة إمساك العصا من المنتصف موقفًا لها، في الصفوف الخلفية، فالكلمة اليوم فقط للشعب.

«يا أهالينا انضموا لينا»..«مش هنخاف مش هنطاطي إحنا كرهنا الصوت الواطي»..هتاف كان مخيفا لرجال الأمن المرابطين بميدان التحرير بعدما فرضوا عليه سياجا لمنع وصول المتظاهرين، محاولات ناجحة وأخرى فاشلة للوصول، كنت على يقين من نجاح المحاولة في نهاية المطاف، وتأهبت لاستقبال الزوار، بالفعل نجحت مجموعات من دخول الميدان رغم القيود والمنع، وأعلنوا الاعتصام، قوات الأمن التي أخذتها المفاجأة، قررت النزول ليلا لفض الاعتصام الأول لثورة يناير في ميدان التحرير.


نفير عام
غليان ونفير عام، أعلنه الثوار في سائر الميادين، وفي القلب منها ميدان التحرير، تغير الهتاف وارتفع سقف المطالب والأهداف، تحول من إقالة حكومة أحمد نظيف، ومحاكمة حبيب العادلي، وزير الداخلية آنذاك ووقف الانتهاك في السجون ومقار الاحتجاز، إلى رحيل النظام، واجهتها حلول أمنية أثبتت فشلها وأعطت قوة جديدة للميدان.

وتيرة الأحداث والاحتجاجات تتصاعد، تغير المشهد مع وقوع أول شهيد بمدينة السويس، ينذر بتظاهرات غير مسبوقة سيشهدها يوم الجمعة ٢٨ يناير فيما عرف بـ«جمعة الغضب»، أيقنت السلطات حينها خطورة اللحظة، وأحكمت قبضتها على الميدان، وأمرت بقطع الاتصال لشبكات الهواتف النقالة والإنترنت، لحجب التواصل بين المنتفضين، إلا أن الأرض انشقت عن مئات الآلاف من المتظاهرين أتوا من كل حدب وصوب، بابتسامة ساخرة كنت أعلم أن المصريين كسروا حاجز الخوف، وأن الأحداث تجاوزت النظام وخطته لوأد التظاهرات في مهدها، وأن أصحاب هذه الأرض سينتصرون في نهاية المطاف.

عبور تاريخي لميدان الحرية، ملحمة نقلها العالم، حفرت في ذاكرة ثورات الشعوب، كانت عند المدخل الجنوبي للميدان، أعلى كوبري قصر النيل، الذي شهد سقوط مصطفى الصاوي، أول شهيد في القاهرة في سلسلة من عشرات الشهداء ومئات المصابين، فر وكر، الغازات تملأ الأرجاء وتحجب الرؤية، صوت الهتاف يعلو صوت الرصاص، دقائق وفقد الأمن السيطرة، وأصبح الطريق ممهدًا لهؤلاء الثائرين إلى الميدان.

تغلبت ابتسامات النضال وفرحة المقاومة على إجهاد الأجساد واستنزاف الطاقات، امتزجت دماؤهم وتوحدت أهدافهم، تطوع شباب الأطباء لإنشاء أول مستشفى ميداني، جهزوه ببعض ما تبقى لديهم من إسعافات، ونظموا لجانا للإعاشة، بل تطوع جزء منهم لحماية المتحف المصري، وبعض المنشآت الحيوية المطلة على الميدان وكذلك المعتصمين، بعد حالة الانفلات التي شهدتها البلاد في ذلك اليوم إثر اقتحام السجون، كان التحرير أكثر الميادين أمانا وحيوية في بر مصر، جلسات السمر التي شهدها، طقوس ألهمت وأبهرت الشعوب، كانت الأرصفة هي المضاجع ومقر الاجتماعات، كان الجميع يتقاسم ما تبقى لهم من ماء وقليلا من الطعام، حينها أعلنت القوات المسلحة النزول لتأمين البلاد، بعدما انسحبت قوات الأمن.



حول تمثال الجد عمر مكرم بالميدان، بينما كانت القوى السياسية تتجه للتفاوض مع السلطة، داخل المكاتب المغلقة، وعبر لقاءات عقدت خلال يومي ٢٩ و٣٠ يناير، مع اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة آنذاك، أعلن الشباب بمختلف توجهاتهم وأيديولوجياتهم، تشكيل أول ائتلاف لهم، أكدوا خلاله أنه لا أحد يتحدث عن الميدان، ولا سبيل إلا رحيل النظام.

«بيع بيع بيع الثورة يا بديع».. هتاف أطلقه الثوار في ٣٠ يناير تخطى صداه أرجاء الميدان، جاء ردًا على موقف محمد بديع، مرشد الإخوان المسلمين، بعدما اقترح إقناع الشباب بإنهاء الاعتصام، وبدأ الجميع يتحدث عن مجلس رئاسي مدني، وتشكيل حكومة ائتلافية قوامها الشباب.

العالم لا ينام، الجميع يترقب ويتابع عن كثب ثورة الشباب في قلب القاهرة، أما النظام فيبدو أنه لم يكن يدرك طبيعة اللحظة فالشعب قال كلمته ولا تراجع عنها ولا استسلام، تعامل مع التصعيد بمسكنات وإجراءات، تصور أنها ربما تغير من الأمر شيئا، فحل مجلس الشعب، وتغير رئيس الحكومة، وعين أمينا عاما جديدا للحزب الوطني، إجراءات كانت وقودا لتمسك الثائرين بمطلبهم وهو «الرحيل».

«الشعب المصري عاطفي بطبعه».. وتر حاول أن يستغله الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، خرج للمصريين بخطاب أبوي، يؤكد فيه أنه لم يكن ينتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة، بدأ عدد من الأمهات تتعاطف مع لغة الخطاب، وبدأ بعضهن يتواصلن مع الأبناء في الميدان لإقناعهم بالتراجع والعودة، اقتنعت القلة القليلة وبقى السواد الأعظم منه متمسكا بموقفه، فما كان من النظام وأتباعه من أصحاب المصالح إلا استخدام بطاقته الأخيرة، التي يلجأ إليها في لحظات الأزمة، تفاجأ المعتصمون بدخول بلطجية على الجمال يدهسونهم ويروعونهم بالأسلحة البيضاء.



«موقعة الجمل».. أطول المعارك التي خاضها معتصمو ميدان الحرية، وأكثرها إنهاكًا استمرت ما يقرب من ٢٤ ساعة بين الكر والفر، رصاص حي وخرطوش يواجهه الشباب بالحجارة، بعدما اضطروا إلى اقتلاع جزء من الرصيف الأسمنتي في مواجهة بلطجة النظام، في مشهد نقلته شاشات العالم، إلا في مصر فالصورة هنا مغايرة، صراخ وعويل، واتهامات بالعمالة والخيانة، في محاولة لتشويه الثورة وأصحابها فأصبح نحو ١٠ ملايين شاركوا في الملحمة ما بين عملاء وخونة.

النظام يتهاوى، والعالم يتضامن مع ثورة الشباب، الجميع في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، كروت النظام جميعها حرقت، وأصحاب حق، مستعدون للبقاء هنا ألف عام، حتى طلوع شمس الحرية، بعدما حجبت ٣٠ عامًا من الظلمة والجهل والمرض.

تنحي مبارك
خطاب عاجل للأمة بعد قليل، القنوات الإخبارية تتوحد، ترقب وقلق، دقائق ويعلن اللواء عمر سليمان تنحي رئيس الجمهورية، وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إدارة شئون البلاد، لحظة خاصة الجميع يتعانق ويبارك، هتافات الانتصار ترج البنايات، فالشعب سطر اليوم أعظم ملحمة عرفها تاريخ البشرية لتحرير الأوطان.




الجريدة الرسمية