رئيس التحرير
عصام كامل

عندما يصبح الصفر.. مليارات


مأثور فرعوني يقول: "أحلك ساعات الليل ما قبل الفجر"، فكم من أزمات يمر بها الإنسان والظن يحتويه أن نهاية العالم قد بدأت، وفي الوقت الذي تتصور أن كل شيء ينتهي، يكون ميلادًا جديدًا تبدو ملامحه وسط الظلمة، ثم يصير جنينا ثم سرعان ما يصبح كائنا حيا يملأ الدنيا نجاحا وأناشيد وأغنيات، وخلاصة القول إن السماء لا تمطر ذهبا غير أنها تمطر ماءً، جعل الله منه كل شيء حي.


رد الله الإنسان إلى أسفل سافلين جاعلا له بين طبقات الأرض كنوزًا، فكان عليه أن يكتشفها، ويبحث عنها، ومن أبهى كنوز الأرض الأمل، فالأمل صناعة المجاهدين ضد التجمد وضد التواكل وضد الاستسلام، فما من قصة نجاح على الأرض تخلو من عمل ومثابرة وجد واجتهاد وقدرة على تغيير الواقع، ومن ثم صناعة الأمل، فالأمل نبتة زاهية نزرعها بجهدنا، ونرويها بعرقنا، والوعد الإلهي واضح وضوح الشمس في هذا الأمر.

* ولد طفلًا عاديا وعاش حياة عادية وسط أقرانه، ولم يجد طريقا يشقه إلا العمل في حمام شعبي، كان ملك والده.. كان الطفل "أحمد" يستيقظ فجرًا يجهز الحمام مع رجال أشداء، لبداية يوم جديد، ولم يكن يتصور أنه سيصبح علامة مهمة في التاريخ الإنساني ضد الكسل والوهن، وظل على هذه الحال، حتى صار شابا لا يعرف من الدنيا إلا تفاصيل العمل في حمام شعبي، مثل آلاف الحمامات الشعبية التي كانت تنتشر في مصر في هذا الوقت.

ساقته أقداره وهو يبحث عن عمل جديد يخرج به من دائرة العمل في الميراث حتى التقى أحد مقاولي الطرق والكباري، وكان الرجل يعمل في فلسطين، ومن هذا العمل احترف أسرار المقاولات ونجح نجاحًا باهرًا، ولأن مصر اقتصاديا كانت منفتحة في هذا التاريخ، بدأ في الاستحواذ على أسهم شركة الفنادق المصرية، ثم اتجه إلى شراء أسهم شركة المراجل البخارية، حتى استحوذ على الأغلبية، فقام على الفور بتمصير البواخر الخديوية، وبدأ يعلو قدره وسط رجال أعمال هذه المرحلة.

كان "أحمد" يعشق كرة القدم فأقدم على الإنفاق على النادي الأهلي، ولمَ لا وهو الثري الذي يشار إليه بالبنان، وأصبح اسمه قرينا للنجاح والمثابرة والقدرة على تجميل واقعه بنجاحات جديدة كل يوم، حتى صار رئيسا للنادي الأهلي ولمدة ١٥ عاما.. رحل "أحمد عبود" باشا عن عالمنا في عام ١٩٦٣م، ولا يزال التاريخ يحفظ له الكثير والكثير من قصص النجاح، التي لم تتوقف عند زمنه وعصره.

* عندما شعر الشاب "محمد" بقدراته العضلية لم يجد أمامه عملا سوى أن يكون واحدا من "العتالين" بميناء الإسكندرية، حيث مولده وبداياته.. عاش سنوات صعبة، من العمل الشاق، غير أنه كان يداعب خياله بصورة مغايرة لوضعه المتردي، كعامل بسيط يناضل يوميا من أجل لقمة عيش معجونة بالعرق والعمل الشاق.. وأتته الفرص للسفر إلى دبي في سنوات ولادة الدولة الحديثة هناك، فعمل في ميناء دبي.

كان هذا العتال صاحب خبرة جعلته يبث الحياة في أول أرصفة ميناء دبي، وعمل على إقناع شركات بترول أجنبية للاستثمار في الإمارات، بعد أن توطدت علاقاته بصناع القرار الإماراتي في ذلك الوقت.. فتحت الدنيا ذراعيها للعتال، وأضحى واحدا من الشخصيات المهمة بعد أن حصل على ثروات مهمة من وراء الاستثمار الأجنبي القادم إلى البلاد الجديدة، واعتدلت حياته بعد سنوات من الانقلاب.

بعد أن أصبح "محمد" اسمًا مهمًا في استثمارات كبرى بدولة الإمارات، انتقل إلى بريطانيا، وهناك أنشأ فندقا صغيرا بلندن، وبدأ مرحلة جديدة، أقبلت فيها الدنيا عليه بعد سنوات من الإدبار، فأصبح واحدًا من الأثرياء في إنجلترا ليعلن عن شراء محال هارودز، التي ضاعفت من ثروته في سنوات قليلة أقبل بعدها على شراء نادي فولهام، وهكذا لمع اسم "محمد الفايد"، ليصبح حديث العالم.

* لم يحالفه الحظ بالنجاح في الثانوية العامة.. هو من الأساس كان يكره المذاكرة والتحصيل.. قاده سعيه للسفر إلى النمسا فكان ينام في صناديق التليفونات ويقتات مما يترك الناس.. عمل بياعا للصحف وتعلم الألمانية مما كسبته يده فامتلك أولى أدواته للتعاطى مع مجتمع جديد لا يزال لديه مساحة لمن يعملون ويجتهدون.. ترقى في السلم الاجتماعي، لينتقل من بائع صحف إلى عامل بأحد الفنادق يغسل الأطباق.

كان ذكاؤه دليله في تطوير أدواته لينتقل بعد ذلك من "غاسل أطباق إلى العمل بإدارة أحد الفنادق.. يتمرد عنان على وضعه ويقرر في لحظة إلهام جنونية، أن ينشئ شركة لإدارة الفنادق.. يتمرد "عنان الجلالي" على وضعه ويقرر في لحظة إلهام جنونية أن ينشئ شركة لإدارة الفنادق، وفى هذه المحطة الزمنية الفارقة في عمر ذلك المتمرد الذكي، تولد شركة هلنان التي تمددت وحققت نجاحات وصلت إلى إدارة ٤٠ فندقا في مصر والنمسا والمغرب والدنمارك، تقلصت بعد ذلك إلى عشرة فنادق دون أن يتوقف النجاح.

* من أشمون بدأ العمل وهو في العاشرة من عمره.. عمل في بيع الأدوات المكتبية والمدرسية.. لم تمض فترة طويلة حتى تعثر الطفل الذي قارب على محطة الشباب في تجارته، بعد أن قررت الدولة منح تلاميذ المدارس الكتب والكشاكيل والكراسات بالمجان.. بارت سلعة الشاب "محمود"، غير أن الأمل كان لديه ذا جذور نفسية عميقة، فقرر الانتقال إلى تجارة أخرى.. قرر الدخول إلى تجارة الأدوات الكهربائية، فكان الفتح المبين بعد سنوات من الصبر.

أراد "محمود" أن يختلف عن التجار بعد أن أصبح صاحب خبرة كبيرة فقرر زيارة اليابان، وهناك أقنع شركات يابانية بإنشاء مصنع للأدوات الكهربائية في مصر، فكان ميلادا عظيما لشركة توشيبا العربي، وكان ميلاد واحد من نجوم الأعمال في مصر، اسمه "محمود العربي".

* العمل في موسم جني العنب في أوروبا، كان ملهما لأعداد كبيرة من شباب مصر عندما كان المصري ينفذ إلى أي مكان في العالم دون تعقيدات التأشيرات قبل سنوات الانحدار، فقرر الشاب "نجيب" مع أول إجازة في سنوات دراسته بالجامعة، أن يغادر برفقة أصدقاء في مثل سنه إلى أوروبا.. سافر الشاب "نجيب" دون أن يكون في حافظة نقوده سوى القليل وهناك وجد نفسه محاصرًا بين نفاد نقوده القليلة، والبحث عن عمل يسد به هذه الفجوة، بين ما يحتاج وما يملك.

التحق بأول فرصة عمل.. عمل في مهنة غسيل الأطباق، وسعد بعمله الجديد الذي يمثل له طوق أمان ونجاة من مخاوف أن تتلاشى قروشه القليلة قبل الحصول على عمل.. في ساعات الراحة يبحث "نجيب" عن عمل آخر حتى يجد مكانا شاغرا للعمل في جراج سيارات.. في الأيام الممطرة يستريح "نجيب" من العمل وفق تقاليد العمل هناك، رحمة بالعمال.. يقضي إجازته ويعود لتغريه التجربة باستكمال المشوار.

يتخرج "نجيب" في كلية الهندسة ويبدأ مع زميل له، وبمبلغ ليس بالكبير كان عبارة عن سلفة.. أنشأ الشابان شركة لاستيراد أدوات حفر، وكانت مصر في ذلك الوقت تستعد لتجديد بنيتها الأساسية، ففطن الشابان إلى أن أدواتهما ستجد سوقا رائجة.. نجحت التجارة وحققا مكاسب معقولة، وكان قرار "نجيب" بالاستقلال، لتمضي سنوات الكفاح التي بدأت من الصفر ويصبح "نجيب ساويرس" واحدًا من الأسماء الملهمة لأجيال تتوالى وتتحسس خطاه، باعتباره نموذجا لبدايات الصفر والوصول إلى القمة.
الجريدة الرسمية