رئيس التحرير
عصام كامل

وراء كل صلاح جاهين «أمينة».. صباح الخير يا «مولاتي»

صلاح جاهين
صلاح جاهين

وقف أمام المرآة الدائرية الملاصقة لباب المنزل، لم يكن يلتفت إليها كثيرًا، بل ربما لم يتذكر وجودها قبل ذلك اليوم، كانت سامية حينها ابنة ثلاث سنوات، تمارس أفعال الطفولة، لم يتابع خطواتها وكلماتها العشوائية المتلعثمة كعادته، تأمل وجهه وجسده الذي نحل، وتحدث إليها: «فقدت روح الفكاهة، فقدت روح الدعابة، أنا لم أعد أنا» وانصرف بعدها على الفور إلى حي الزمالك حيث منزل السندريلا سعاد حسني.


مشهد أخير للراحل صلاح جاهين، شاعر العامية الفذ.. رسام الكاريكاتير المتمرد، داخل منزل الجد أحمد حلمي باشا، بشارع جميل باشا بحي شبرا، قبل ساعات من دخوله إلى المستشفى بعد أزمة صحية شديدة تعرض لها، على أحد الأسرة بغرفة العناية المركزة.

واسترجع «فيلسوف الفقراء» على مدى ٥ أيام، ٥٥ عامًا من الحب والضحك، الحزن والاكتئاب، فيلم سينمائي أعاد ترتيب مشاهده، يوم ميلاده، شوارع شبرا، مدرسة أسيوط، حديقة بيت المنصورة، قراط السعف، جلسات الحرافيش، منى وأمينة، بهيجة وسعاد، بيانو فيلا أحمد حلمي وشقاوة سامية وهدوء بهاء، وإهداء نجيب، وفي الخلفية ظلت صورة وصوت الأم.

المشهد الأول.. داخل منزل جده في شبرا، الطقس بالخارج شديد البرودة كعادة أجواء ديسمبر، حالة من القلق والانتظار تنتاب الجميع، الطبيب يخبر الزوج أن زوجته في خطر، فعملية الولادة متعثرة، ربما تودي بحياة الجنين، الساعات تمر رتيبة باردة، حتى ولد محمد صلاح الدين بهجت، شديد الزرقة ودون صراخ، ظن الجميع أنه ميت، ظروف ولادته الصحية كانت سببًا في حالته المزاجية غير المستقرة، فرح بطفوليه عبرت عنها ملامح وجهه البريئة، وحزن حد الاكتئاب بل الموت.

صلاح جاهين، يستحق ألف بطاقة هوية، فهو «كتيبة» عبقرية.. كطيف قوس قزح، تحاول لمسه بعد زخات المطر فإذا به يراوغك لتقترب منه أكثر وأكثر، كان من الذين لا يؤمنون بالتخصص، يرى أن حرام على المرء، أن يمضي عمره كله في الانكباب على لون واحد من الفن، وهنا كانت للسيدة أمينة حسن، والدته نصيب الأسد في بلورة شخصية أكبر أبناءها على هذا النحو، واكتشاف مكامنه الفنية والأدبية.

وراء كل «جاهين» أم، تفاصيل خاصة عن طبيعة العلاقة بين صاحب الرباعيات وأمه تكشف بعض منها شقيقته بهيجة بهجت تقول: "كانت حبه الأبدي، وهي أول من آمنت بموهبته التي ظهرت مبكرًا، ولاسيما أنها تخرجت في مدارس إنجليزية، وعملت بالتدريس، قبل أن تتفرغ لتربيتنا، وظلت معلمته الوحيدة داخل المنزل فترة طويلة، وكان صلاح في ساعات الدرس دائمًا يقول مداعبًا: «أنا أخدت كل عقاب أطفال المدرسة لوحدي».

كسول للحد الذي يجعله ينتظر للحظة الأخيرة لإنجاز عمل ما يقوم به وربما عرض من أعراض الاكتئاب، إلا مع سعاد، هكذا تقول شقيقته، التي عاودت تسترجع ذكرياتها عن علاقتهم بوالدتهم: «إلى جانب تعليمنا، كانت والدتي تقص علينا روايات الأدب الإنجليزي بطريقة مبهرة، ليس ذلك فحسب، بل كانت أم ثائرة ذات نزعة وطنية منذ الصغر، إذ أصرت أثناء دراستها أن تقابل سعد زغلول في منزله، بعد أن اصطحبت معها معطفًا من الصوف حاكته ليرتديه، ونجحت بالفعل، وهو ما انعكس فيما بعد على صلاح جاهين ومواقفه من القضايا الوطنية.

وأكملت: كان أبي يعمل في السلك القضائي، وكنا ننتقل من محافظة لأخرى، قضينا نحو ١٢ عامًا في الريف، وهو ما شكّل الجزء الأكبر من وجدان شخصية صلاح، بدأ يصنع بيوتًا من الطين والماء وبعض السعف وورق الشجر، وكان لأمي الفضل في تنمية موهبة الرسم والنحت، وحتى كتابة السيناريو والتمثيل إلى جانب الشعر، ولكن في أوقات العطلة والإجازات الرسمية حتى لا تنتقص مواهبه من مستواه الدراسي».

تقول الشقيقة التي تصغره بعامين: «كانت أولى هدايا صلاح لأمه، قرط صنعه على هيئة قلب من عيدان الذرة بعد تهذيبها وتأهيلها، ولوّنه بطلاء الأظافر، كانت من أسعد لحظاتها عندما دخل عليها بوجهه الهادئ البريء ليقدم لها تلك الهدية، التي احتفظت بها حتى وفاتها».

رباعيات الخيام، كانت تتردد أصداؤها داخل بيت صلاح جاهين الطفل والفتى الذي سرعان ما شبَّ ليصبح واحدًا من أعظم مبدعى القصيدة العامية المصرية، أثرت في تربيته الأدبية، فضلًا عن أنه كان حريصًا منذ طفولته، على قراءة الأدب الشعبي، إلى جانب الأدب الإنجليزي،، بعدما زاد ولعه بالأسواق وعادات أهل الريف، واقتحم تفاصيلها، فلم تمر عليه هذه الأجواء مرور الكرام، ترجمت فترات النضج والتوهج في الرباعيات أوبريت الليلة الكبيرة.

احتلت السيدة أمينة حسن، والدة «جاهين» مكانة خاصة في قلبه وعقله، فكانت امرأة استثنائية، ملاذه وقت الضيق، والمرشد والموجه لحظة التشرذم والشرود، وبخاصة بعد سفريته العلاجية الأخيرة، كان صامتًا، مكتئبًا يبتعد عن الناس إذا اشتد عليه الحزن، خشية أن ينزعج محبيه من الحالة التي وصل إليها، ولكنه سرعان ما تعود إليه براءته وابتسامته بمجرد أن يلتقي أمه «مولاتي» كما كان يحب أن يصفها.

توفى الابن وظلت الأم بعده 5 سنوات تخلد ذكراه، وتحفظ سيرته وأعماله، فلم تتوقف أبدًا عن الحديث عنه، ما تبقى في عمرها بعد رحيله، تقول بهيجة: «أمي ظلت تذكره في أي اجتماع ومع كل مناسبة، كنا نخشى عليها بعد وفاته، فالجميع يعلم قربهما الشديد وعلاقة الصداقة التي نشأت بينهما منذ نعومة أظافره، إلا أنها كانت متماسكة وقوية، كنا نبادر في تغيير قناة تليفزيونية، أو غلق التلفاز تمامًا في كل مرة تعرض فيها، أغنية صباح الخير يا مولاتي، إلا أنها كانت تصر على سماعها واستكمالها، وتقول في شجن: من فضلكم سيبوها دي من ريحة الحبايب، حتى في لحظات الموت شاء القدر أن يجعلها علاقة خاصة حتى النهاية، فتوفيت الأم يوم ميلاد ابنها النابه، الذي استقبل الحياة وخاض تفاصيلها ببراءة طفل صغير، كانت فيها ملهمته وسيدته الأولى».
الجريدة الرسمية