رئيس التحرير
عصام كامل

في تفسير صعود الفوضى: ميراث الثورة الفرنسية الدامي


يتعجب كثيرون من سكان دول الفقر والصبر والمعاناة، من أن الأوروبيين يعانون شظف العيش، ويتظاهرون سخطا لأن دخولهم الشهرية تتبخر خلال العشرة أيام الأولى، كأنهم رعايا دول في الشرق الأوسط، أو تحت الصحراء الأفريقية الكبرى، كيف يمكن استيعاب التقدم التكنولوجي المذهل في السلاح، وله بالطبع انعكاساته في المنتجات الهندسية المدنية، وتراجع مستوى الدخول؟


لماذا عادة تبدأ في فرنسا ومن فرنسا موجات التململ الاجتماعي، الذي يتحول لاضطرابات سياسية دموية؟

لا يجوز في هذا المقام التحليلي الذي نحاول فيه تأصيل الحراك السياسي العارم في البنية الاجتماعية والاقتصادية، بل العرقية في القارة الأوروبية، لا يجوز إغفال الدور العميق المترسخ للثورة الفرنسية وإرثها الدموي المذهبي!

هذه الثورة اندلعت عام ١٧٨٩ واستمرت عشرة سنوات، أي لعام ١٧٩٩، أعدم فيها الملك لويس السادس عشر ١٧٩٣، أي بعد أربعة أعوام، ومع صعود إرهابي الثورة الفرنسية ماكسيميليان روبسبير، عرفت الثورة عصر الإرهاب، الذي استمر عاما بأكمله تناوب فيه الثوار الجمهوريون قطع رقاب بعضهم البعض بالمقاصل والفؤوس.

بلغ عدد الرؤوس المتطايرة أكثر من أربعين ألف رأس مثقف وبورجوازي وليبرالي وعمالي وغيرهم.

هذه الثورة التي نادت بالإخاء والمساوة والعدل كانت مفرخة الإرهاب، لأن مبررات الذبح المذهبي ولدت من رحمها الفوار بالأفكار، ويمكن القول أن كل ما نعرفه الآن من نظريات ومذاهب سياسية واقتصادية ولدت من المخاض الدامي لثورة النخبة المثقفة والتجار والعمال والفلاحين على النظام الملكي الذي خنقته الديون وأحاط به الافلاس، ولدت الليبرالية وولدت الراديكالية وولدت الاشتراكية، والقومية، وتمكين المرأة، وأيضا العلمانية، شعوب المستعمرات الفرنسية اعتبروها القدوة والنموذج في سعيهم للتحرر من دكتاتورية نابليون العسكرية، وجموحه الإمبراطوري وتمدده في القارة الأوروبية.

تذهب الثورة الفرنسية في التاريخ مذهب الأم لكل ثورات العالم اللاحقة، وبالذات الثورة الروسية، لكنها كانت كتاب الدم المسطور الذي يرجع إليه كل من أراد القتل بسبب يبتدعه!

إذا استحضرنا كل فصول وتداعيات هذه الثورة في الذهن، ونحن نقرأ ونشاهد فصول القلق والهواجس، تمتد من قلب باريس، إلى بلجيكا وهولندا، وتطل بأعناقها عبر الأطلنطي نحو واشنطن، سننتهي إلى أن غضب الفرنسيين هو مقدمة لغضب العالم الحر، وهو غضب (دامي)، تصعد فيه حناجر الدهماء إلى قواعد النخب السياسية ومقامات السلطة فيها وتهوى على رؤوسها بالقطع وبالتحطيم.

ثورات الفرنسيين إذن ليست مزاحا ثقيلا، ولا هي نفثات غل عارضة، ولكنها تغيير مسارات كاملة، ما يحدث الآن، كل سبت، في قلب باريس، ليس سببه الوحيد إضافة بضع مئات من اليوروهات إلى الدخول الشهرية، بل سببه الرغبة في التخلص من رئيس رأته الجموع التي جاءت به تجسيدا لنخبة متعالية متعجرفة، تتخذ من دعاوى الإصلاح سبيلا لفرض الهيمنة، في الضمير الفرنسي يعد ذلك استدعاء باطنيا لعصور الإقطاع والاستعباد وجباية الضرائب لسد الديون الباهظة، والإنفاق المجنون للويس السادس عشر!

من أجل هذا كان عنوان الفصل الخامس، أو السبت الخامس، من الاحتجاجات الفرنسية يحمل عنوان: ارحل يا ماكرون.
قطع الرقاب اليوم لم يعد بالمقاصل ولا السيوف، بل بالحناجر والحشود، وسيادة روح القطيع تقود الدهماء إلى الحرق والسلب والنهب.

هل هناك من ارتباط بين صعود نجم الفوضي ومعاداة النخبوية ANT-ELITISM، وبين صعود الهمس العرقي في أوروبا نحو معاداة السامية ANTI -SEMETISIM؟
نواصل محاولة الفهم الأسبوع المقبل.
الجريدة الرسمية