رئيس التحرير
عصام كامل

القاضي والعشاب والسلطان!!


واحدة من قصص الماضي التي لم يرصدها أحد ولم يسجلها مؤرخ غير أنها وردت إليَّ فيما يشبه الحلم أو الكابوس.. كان الرجل يعمل عشابًا في العصر المملوكي يغش بضاعته، ويدعي أنه الشافي الوحيد في البلاد نتيجة مهارته وقدرته على تخليق الأدوية والعلاجات وكلما منح أحدًا دواء لا يأتي بنتيجة رغم التكاليف الباهظة التي يتكبدها كل مريض.. ذاع صيته الكاذب بين الناس حتى اعترف له السلطان بقدرته؛ فمنحه موقعًا متميزًا يعالج فيه مرضاه!!


اجتمعت في الرجل كل صفات الخداع والكذب والنصب فكون ثروة لا تضاهيها حتى ثروة السلطان، وكان هناك قاضٍ مشهور بين القوم بسلاطة لسانه وكانت تصاحبه "شخرة" كلما ناقش مجرمًا أو قاتًلا أو لصًا في أثناء التحقيق.. تجمع القوم عند صاحب الشرطة يشكون العشاب النصاب وكلما تقدم واحد منهم بشكواه ضد العشاب حفظها الشرطي، إذ إن العشاب مدعوم من المخفر ومن وكيل القاضي ومن الوزراء والخفراء.

ولما لم يجد الناس حلًا لمشكلاتهم مع العشاب أرادوا أن يكيدوا للعشاب لدى السلطان فألقوا في طريق العشاب برجل شهر بثرائه.. نصب العشاب على الثري في مبلغ مالي كبير واتجهوا إلى السلطان يشكون تعنت العشاب دون أن يقتربوا من مهنته التي تثق بها كل أجهزة المملكة وقد أرادوا أن تكون مظلمة الثري بداية لسقوط عرش العشاب، ولما وجد السلطان أن شكوى الثري هي مظلمة بعيدة أن عمله الذي يظن أنه ماهر به أمر بالتحقيق في شكوى الثري.

في اليوم الموعود ضجت قاعة القاضي بالصغار والكبار بالنساء والبنات.. بالوزراء والخفراء وسرت شائعة بين الناس أن السلطان سيحضر المحاكمة.. حضر الحرس والعسس والعسكر وقوات من صاحب الشرطة ووصل الثري إلى قاعة المحاكمة وفي يديه دليل الإدانة صك دين على العشاب ولما علم حاجب القاضي أن الوزراء والخفراء والسلطان قد حضروا إلى ديوان القاضي توجس خيفة من عادة القاضي ومصاحبة "الشخرة" له في أثناء التحقيق؛ فأراد أن ينبه القاضي إلى الخطر الذي يحيق به.

دخل الحاجب على القاضي وقال له: "سيدي القاضي لقد جاء السلطان إلى قاعة المحاكمة ووزراؤه وهم جميعًا متخفون في أزياء رثة ليروا كيف ستسير محاكمة العشاب وأنه يجب عليه أن يتحكم في نفسه وألا يمارس هوايته في "الشخير" وإلا سيواجه موقفًا عصيبًا أمام السلطان"، قرر القاضي أن يضبط أعصابه وأن يستمسك بالهدوء حتى لا يفقد منصبه جراد عادة دميمة يجب عليه ألا يمارسها أمام علية القوم.

دخل القاضي إلى القاعة ونادى على الثري ليروي مظلمته.. وقف الثري بكل ثقة وهو يقدم للقاضي صك النصب ويحكي أمامه ماذا فعل به العشاب.. انتهى الرجل من روايته؛ فنظر القاضي إلى العشاب وطالبه بالرد على الثري وهل فعلًا نصب عليه أم أن الأوراق ليست من توقيعه؟

وقف العشاب بكل ثقة دون أن يدري أن السلطان حاضر الجلسة وقال: سيدي القاضي.. التوقيع توقيعي وللرجل عندي مائة ألف درهم وهذه حقيقة غير أنني فزت له المبلغ وذات يوم ذهبت إليه في منزله لأسدد ديني فأبلغتني زوجته أنه على سفر وعندما عاد وجاء ليطالبني به كنت قد أنفقته.. رد القاضي: وماذا حدث بعد ذلك.. قال العشاب: وفرت المبلغ مرة ثانية وذهبت إلى الرجل فلم أجده فأنفقت المال غصب عني.

قال القاضي وهو ينظر إلى السلطان المتخفي وماذا فعلت بعد ذلك؟ قال العشاب: للمرة الثالثة وفرت المبلغ وأُنفق مني رغمًا عني في ظل غيبته.. تنهد القاضي وهو يكتم غيظه وقال للعشاب: "إذن كيف ترد دينك؟.. قال العشاب: أقترح عليك سيدي القاضي أن تحبس هذا الرجل الثري عندك لفترة حتى أوفر المبلغ وساعتها سآتي إلى السجن وأسدد له دينه وهذا هو الحل المثالي.. ساعتها نظر القاضي بعصبية صوب السلطان وقال: عفوًا جلالة السلطان "تشخر سيادتك ولا أشخر أنا"!
الجريدة الرسمية