رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

في تفسير صعود الفوضى: معاداة النخبوية!


تبدو القارة الأوروبية في حال من التململ السياسي، لم يسبق أن حدث لها في الماضي القريب، وربما كانت الحرب العالمية الثانية في أشد صورها دموية هي مشهد الختام، قبل إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للقارة التي فقدت ما يزيد على ٦٠ مليون جندي.


لا يعني هذا أن التململ الحالي قد يدفع إلى مغامرات عسكرية، فالحدود محترمة ومصونة بين معظم دول القارة العجوز، بل تنتظمها الآن مواثيق الاتحاد الأوروبي، يعني ما أقوله إن الاضطرابات ليس منبعها هذه المرة أطماع الساسة ومغامرات الجنرالات، أو العقائد المذهبية، بل هي في مصدرها الرئيسي ناتجة عن الشعبوية الجديدة في العالم، كان نصيب الشرق الأوسط، والمنطقة العربية منها داميا وكبيرا..

ثم لم تلبث أن امتد مداها، لتمسك بخناق الدولة الفرنسية، وتتزحزح إلى بلجيكا، وهولندا، وتصبح في ألمانيا داخل منطقة الغليان، المحرك الرئيسي للشعبوية الأوروبية، فيما أظن، هو الارتفاع الجنوني في تكلفة الحياة، وهو ما نسميه مصاريف الشهر، من طعام وشراب وسكن وعلاج ومواصلات وترفيه وملابس.

لكن هناك سببا آخر لا يجوز إغفاله، لأنه بتغريداته وقراراته وسلوكياته وعشوائية مفرداته، وبتناقض مواقفه وتقلبات المزاجية يعتبر المحرض الأكبر على هدم المعتاد في الديمقراطيات الغربية، إنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أول عشوائي شعبوى يبلغ رأس القوة في أهم وأقوى دولة في العالم، وبسبب من ماديته الصرفة وعقليته التجارية، اتسعت المسافات بينه وبين القارة الأوروبية، التي جعلها موضع تهكماته وسخرياته وابتزازه، على نحو لم يحدث أبدا في تاريخ حليفين تقليديين لعشرات العقود.

لا يجوز في الوقت نفسه، ونحن في سياق بحث جذور ودواعي ما يحدث في أوروبا من حراك عنيف في الشارع، إغفال الدور المرعب للتكنولوجيا في تقليص فرص العمل والوظائف، والاستغناء عن مئات الألوف من البشر اعتمادا على الإنسان الآلي الأذكى والأدق والأسرع والأوفر الذي ليست له مطالب سياسية ولا نفسية ولا ترفيهية ولا أجور أصلا!

هذه التكنولوجيا الفائقة التطور، تتكاثر، في حقيقة الأمر، على نحو مخيف، يهدد مستقبل الجنس البشري لمصلحة الجنس نصف الآلي، والجنس الآلي كله (الجنس نصف الآلي هو نصف بشري ونصف أسلاك ودوائر ورقائق كهرومغناطيسية وموصلات وأشباه موصلات).

ماذا يجمع كل هذه التناقضات في القارة الأوروبية وعبر الأطلنطي نحو واشنطن على الساحل الشرقي؟ ما الرابط بين اضطرابات باريس وحرائقها، وبلجيكا المتملمة، وألمانيا التي تمضي ببطء إلى اضطرابات قاصمة في مواصلاتها وقطاراتها، وبريطانيا التي طلبت الطلاق من الاتحاد الأوروبي وأصرت عليه، وتفاوضت للخروج، ثم لم تلبث أن تراجعت وانقسمت، على نحو كاد ينذر بطرد رئيسة الحكومة تيريزا ماي بعد التصويت على سحب الثقة منها، والاستفتاء من جديد على البقاء أو الخروج من جنة الاتحاد الأوروبي؟

نعم ما الذي يربط كل هذه الجزر المتداعية من الأحداث؟
كما كان العالم يتحدث بعد الحرب العالمية الثانية ولا يزال عن معاداة السامية، فإن العالم الآن يتحدث عن نظرية جديدة تفسر صعود نجم الفوضى في الديمقراطيات الغربية!

إنها معاداة النخبوية، ANTI-ElITISM.

كراهية النخب السياسية والمالية والثقافية هي الموجة المجنونة الآخذة بالحضارة نحو التدهور، وصل ترامب نبي هذه الموجة السياسية، محمولا على أعناق كارهي النخبة الفاسدة المتعفنة في واشنطن، يبدو سلوك ترامب نحوها عقابا واضحا لكثير من السياسيين الذين يعملون معه ومن حوله.

كراهية النخبة لها وجه آخر هو تمجيد الدهماء.. وهذا بالفعل ما نعيشه.. والقادم مخيف، في دورة حضارية إلى الخلف رغم القفزة التكنولوجية وتكاثرها غير المسبوق.
Advertisements
الجريدة الرسمية