رئيس التحرير
عصام كامل

الغانيون والمصريون يصنعون المجد


اختلط عليَّ الأمر.. يبدو أن الطائرة حطت بنا في مطار غير الذي كان قبل عام، كان مطار كوتاكي الدولي بأكرا بسيطًا في بناياته ولم يكن يحظى بهذه الحداثة.. يبدو أن الأمور تتغير هنا سريعًا.. خرجنا من صالة الوصول إلى شوارع أكرا التي بدا عليها تغيير كبير بقياس زمن الزيارة الأولى.. شهدت العاصمة الغانية ولادة بنايات حديثة مزينة بأسماء مؤسسات بنكية وشركات دولية أكثر مما كانت عليه.


بلاد الذهب تكشف عن مغريات جديدة في كنوزها في مجالات التعدين الواعدة ومجالات الزراعة القادمة والصناعة التي بدأت ترسم ملامح جديدة لبلاد، يخطط أهلها لها بإخلاص منقطع النظير مع حوافز استثمارية وشفافية رسمت تفاصيلها باستقرار سياسي يعد الملهم لمحيطيه الإقليمي والدولي بعد أن نضجت تجربة غانا في التداول السلمي للسلطة بإرادة وطنية فولاذية لا تحيد عن طريقها؛ فأصبحت قبلة للاستثمار الأجنبي.

السياسة في غانا متطورة إلى أقصى درجة.. أحزاب تتنافس على رضا المواطن وتداول سلمي خلق مناخًا من الاستقرار كان حتى تجربة عدة دول أفريقية غريبًا على القارة السمراء.. البرلمان شعلة نشاط، والحزبيون يتحركون في كل اتجاه صوب، هدف قومي واحد أن تحظى غانا بما يجب أن تحظى به وسط الأمم وسط تنافس شريف أنهى عصورًا من لصراع على السلطة، إذ بات تطور البلاد هو الهم الأكبر للساسة وقادة الأحزاب.

في اليوم التالي كانت بلاد الذهب التي عاشت عصورًا من الاحتلال والاستغلال وسرقة كنوزها من المعدن النفيس على موعد مع ولادة أول سبيكة ذهبية مدموغة من أعلى سلطة في البلاد وصنع غانا.. في أحد فنادق العاصمة حضر لفيف كبير من النخبة السياسية ومن البرلمانيين والوزراء وممثل عن رئيس الدولة وعدد كبير من الصحفيين والكتاب والسفراء، وكانت مصر حاضرة بقوة وكأن التاريخ يعيد كتابة نفسه مرة أخرى.

مضت بنا السيارة إلى حيث مقر الاحتفالية الوطنية الكبيرة.. اخترقنا ميدان جمال عبد الناصر وشهدنا بنايات كانت مصر بطلها أيام البطولات الغانية المصرية عندما قاومنا مع أشقائنا الاحتلال.. لا تزال قصة زواج الزعيم الوطني الخالد نكروما أحد أهم قادة التحرر الوطني الغاني من سيدة مصرية - فتحية - والتي يسمونها هنا "فاتيا" واحدة من أهم قصص العناق المصري الأفريقي.

لم يكن زواج نكروما من مصرية إلا حالة اختزال لواحدة من قصص النضال المشترك بين المصريين والأفارقة ضد الاستغلال والاحتلال والاحتكار ومطاردة الاستعمار من الأرض السمراء.. مضت السنوات سريعة حتى وصل النضال إلى مرحلة النضج السياسي فكان الشعار الذي رفعه أبناء غانا "غانا بدون مساعدات"، هو الهدف الأسمى الذي تتصارع من أجل تحقيقه النخبة السياسية في البلاد؛ ففتحوا المجال أمام الاستثمار فكان الحدث الجلل اليوم.. إنتاج أول سبيكة ذهبية مصنوعة في غانا ومدموغة من أعلى سلطة في البلاد بهذا الشأن.

الدكتور "سعيد دراز".. رجل أعمال مصري جاء إلى غانا عام ٢٠٠٧م وقرر الاستقرار باستثماراته هنا ومجموعته هي بطل الحدث اليوم.. جولد كوست ريفاينيرى ثاني أكبر مصفاة ذهب في أفريقيا من حيث الطاقة الإنتاجية، والتي تصل في حالة الاستغلال الكامل إلى ١٨٠ طن ذهب سنويًّا وبدرجة نقاء تصل إلى خمس تسعات وهي أعلى جودة في العالم ووفق تقنية إيطالية وخبراء دوليين وغانيين.

تذكر "دراز" أولى رحلاته إلى غانا متحدثًا إلى حضور الحدث الجلل بقوله "أذكر رحلتي الأولى إلى غانا في عام ٢٠٠٧م والتي حظيت فيها بفرصة مقابلة الرئيس آنذاك والذي قال لي، إن لدى غانا فرصا استثمارية عديدة.. عندما تستطيع تطويع العمل الاستثماري إلى الالتزام بقوانين البلاد وخدمة الشعب الغاني ستدعمك حكومتي والحكومات التي تليني"، ومن هذا الحين والدولة تدعم الاستثمار كهدف إستراتيجي اجتمعت عليه الأحزاب التي تتوالى في حكم البلاد.

يتحدث "دارز" عن الديمقراطية باعتبارها أهم وسائل جذب الاستثمار الأجنبي "أن الأساس الديمقراطي والمناخ الاستثماري المتميز يعدان القوام الرئيسي للنمو الاقتصادي للدول وقد شهدت أن جمهورية غانا تمتاز بهذا المناخ الاستثماري، فضلا عن تمتعها بالموارد الطبيعية والتي ستنهض بالاقتصاد شيئًا فشيئًا بعيدا عن استيراد السلع الأساسية تحقيقا للرؤية الوطنية "غانا بدون مساعدات".

في نهاية الحفل الأسطوري شهد الحضور إطلاق أول سبيكة ذهبية غانية مدموغة، وتم إهداؤه لتوضع للتاريخ في مقر رئاسة الجمهورية باعتبارها حدثًا وطنيًّا مهمًا يدلل على الروح الوطنية وتعانق القطاع الخاص وتوافقه مع الرؤية الإستراتيجية للبلاد وتحويل غانا إلى مركز لتجميع الذهب إقليميًّا بما تحويه المصفاة الجديدة من إمكانيات وطاقة استيعابية لكل الذهب المستخرج من غانا ومن غيرها من البلدان الأفريقية الأخرى.
الجريدة الرسمية