رئيس التحرير
عصام كامل

المشروع القومي لتطوير «سكة الندامة»


غريب أمر هذا البلد، فلا أعتقد أن هناك دولة في العالم تمتلك مرفقا لـ "السكك الحديدية" بمثل هذا الحجم، ويتم تركه على مثل هذه الحالة من التردي، وسوء الخدمة، وسيطرة البلطجية، على الرغم من وجود إجماع من كل خبراء الطرق، أن تطويره سوف يحدث نقلة نوعية قد تغير من وجه الحياة في هذا البلد.


ولعل ما يدعو للحزن في أمر هذا الملف، أنه منذ بداية عهد الرئيس السادات، لم يمر على مصر حكومة لم تقطع على نفسها عهدا بتطوير مرفق "السكة الحديد" إلا أن كل الوعود ظلت على مدار الـ 50 عاما الماضية "مجرد تصريحات" للاستهلاك الإعلامي"، ينتهي مفعولها بخروج المسئول، وتولي من بعده، ليطلق وعودا جديدة تنتهي صلاحيتها بمجرد تولي من يليه.

وعلى المواطن المسكين أن يتحمل يوميا، معاناة الجلوس وسط كم رهيب من البشر يفترشون كل طرقات العربات، وأن يتغاضى عن كارثة تأخر مواعيد الإقلاع لساعات، والمقاعد القذرة والمتهالكة التي يجلس عليها جبرا، والنوافذ المحطمة، والروائح كريهة التي تنبعث من الحمامات، وأن يصمت أمام الإهانة من مئات الأحذية التي تتدلى فوق رأسه بشكل مباشر، من أرجل من يتخذون شبكات الحقائب كمقاعد وأسرة، وأن يجلس في الظلام ليلا في عربات مخيفة لا تحتوي على الحد الأدنى من الإضاءة.

وأن يصمت أمام سيل الألفاظ القذرة التي تخترق أذنيه من آلاف البلطجية، والباعة الجائلين الذين يسيطرون على كل العربات، في ظل غيبة كاملة من الأمن عن كل ما يحدث من ممارسات شاذة وغريبة، تحدث بشكل يومي داخل تلك القطارات، مما حول المرفق بالفعل في عين المواطن إلى مرفق لـ "الندامة" وليس لـ "السكة الحديد".

ولا أدري كيف تهمل الدولة تطوير هذا المرفق، وتتركه كل هذه السنوات على هذا الشكل البشع، باستثناء عدد محدود من الرحلات على خطوط القاهرة ـ أسوان، والقاهرة ـ الإسكندرية، على الرغم أن تطويره وإعلانه كـ "مشروع قومي" سوف يوفر كثيرا من استهلاك الوقود في مصر، لأنه سيجعل أغلب أصحاب السيارات الخاصة، ومعهم من يصبرون على التصرفات الشاذة ورعونة أغلب "سائقي الميكروباص"، ينتقلون مباشرة إلى ركوب القطارات، وبالتالي توفر "وسيلة نقل آدمية" للمواطن، وتوفير كثيرا من الوقت والجهد والمال، والتخفيف بشكل مباشر من الضغط على الطرق، والحد من نزيف الدم الذي لا ينقطع جراء الحوادث على كل الطرق، وخفض نقل السلع والبضائع، وغيرها من المميزات.

أعلم أن المرفق يحتاج إلى مليارات الجنيهات لإحداث تطوير جذري، من مدة الإزدواج إلى كل الخطوط، وتحديث العربات والجرارات، وأن هذا سيضطر الهيئة لرفع سعر التذكرة لاضعاف ما هي عليه الآن، وهو ما لا قد يقبله المواطن، وهذا صحيح، إلا أن أنني أؤكد أن الهيئة تمتلك مقومات غير طبيعية لم يتم استغلالها حتى الآن، يمكن استغلال مواردها لدعم سعر التذكرة في درجات معينة للفقراء في حالة التطوير، أقلها أسوار المحطات بداخل للمدن، والتي تركتها الهيئة على المشاع للجميع للإعلان عليها، بدلا من طرحها مع العربات من الخارج، لشركات الإعلانات، لتدر مليارات الجنيهات على الهيئة.

إلى جانب أن المردود من التطوير سوف يدر أضعاف أضعاف ما سينفق عليه، ويمكن الهيئة توفير عربات مختلفة الدرجات والأسعار في الرحلة الواحدة، وترك الخيار للمواطن لتحديد المقعد المناسب لإمكانياته، وأعتقد أن في تجربة العربات السوبر التي أدخلتها الهيئة على خطوط الإسكندرية والصعيد، دليل على واقعية نجاح فكرة التطوير، حيث يتم حجزها قبل كل رحلة بأيام، بل ويعاني المواطن من سوق سوداء للحصول على تذاكرها خلال أيام العطلات والأعياد.

أؤكد، أن تطوير مرفق "السكة الحديد" أصبح ضرورة، وأنه قد آن الأوان أن تتدخل الدولة لرفع المعاناة والإهانة عن المواطن الفقير، ووقف الممارسات الشاذ والتدهور الذي يعاني منه هذا المرفق، خاصة ترك الأمر على ما هو عليه منذ العشرينات من القرن الماضي، سيظل عارا يطارد كل الحكومات المتعاقبة في مصر.
الجريدة الرسمية