رئيس التحرير
عصام كامل

أيام السلطنة مع «الست».. «فيتو» تحاور «عم عبد الفضيل» آخر أعضاء فرقة أم كلثوم

فيتو

بخطى وئيدة وشغف عمره أربعة وأربعين عاما، يمسك السبعيني عبد الفضيل محمد عازف «التشيللو» «ريموت» التليفزيون، يبحث عن الزر الخاص بموقع «يوتيوب» على الشاشة، وبحركة آلية وسرعة منقطعة النظير، يعثر على مقطع الفيديو الذي شاهده عشرات المرات قبل ذلك «التسجيل الأصلي لحفل الست أم كلثوم لأغنية "أغدا ألقاك"، على مسرح جامعة القاهرة في العام 1971».


تنسكب الدموع من عيني عبد الفضيل كلما جاءت سيرة "الست"، يخلع النظارة عن وجهه ويمسح بمنديله الذي يرافقه في كل جلسة: "أم كلثوم مش مجرد مطربة عدت دي حالة عشناها وتلبست بينا ومش هتفارقنا".

يقترب عبد الفضيل رويدا رويدا من الشاشة، يتأمل وجه أم كلثوم وهي تتهيأ لإطلاق المطلع الأول من الأغنية، فتتقلص عضلات وجهه وتُغالبه دموعه: "أنا كده لما أشوف الست ولا أسمع اسمها بدمع غصب عني!".


بجانب حبه الجنوني لـ"الست" منذ كان في السابعة من عمره، أصبح وبضربة قدرية بحتة آخر من تبقوا من "أوركيسترا" كوكب الشرق، بعد رحيل مجموعة من كبار العازفين، الذين شهدوا الأيام الأخيرة لأم كلثوم وبالطبع آخر حفل لها في حضور الجماهير.

في مطلع سبعينيات القرن الماضي، انضم عبد الفضيل لفرقة "محمد ماضي" الموسيقية التابعة لدار الأوبرا المصرية، التي تضم عددا كبيرا من موسيقيي معهد الموسيقى العربية: "من سنة 1962 انضميت لفرقة ماضي الموسيقية واللي كان معظم أفرادها بيعزف للست، كان السنباطي وعبد الرءوف عيسى والموجي ومحمد سلطان هم المشرفون على أدائنا فيها بشكل شبه تام".

ظل حلم الطفولة بأن يصبح واحدا من كبار العازفين خلف أم كلثوم يداعب عبد الفضيل: "كان جاري في البلد عازف تشيللو لفرقة أم كلثوم وياما تأملت آلته وتخيلت أني مكانه بعزف لها".

كان عبد الفضيل يعرض كثيرا على أصدقائه بفرقة ماضي الموسيقية أن ينضم إلى الزملاء المداومين على العزف في حفلات الست، لكنهم كانوا يخبرونه أن هذا الحديث سابق لأوانه وعليه الانتظار قليلا، إلى أن جاء اليوم الذي حٌفر في ذاكرة عبد الفضيل حتى هذه اللحظة، يوم دفعت به "الصدفة" إلى ستديو 35 ب أو "ستديو أم كلثوم" بمبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، حيث يتدرب "أوركيسترا أم كلثوم" على اللحن الجديد "أقبل الليل".

أخبره أحد أصدقائه أن الموسيقار الكبير رياض السنباطي يحتاجه في أمر مهم للغاية، وهو في انتظاره في ستديو 35 ليشارك في عزف أغنية "أقبل الليل" وكان الأمر تحديا من السنباطي ورغبة مُلحة في إبراز هذا الوجه الموسيقى الشاب على السطح: "في يوم قالوا حدث مشكلة في أغنية أقبل الليل، والسنباطي طلبك علشان تعزف معاهم ووقف العزف في انتظارك، والفرقة اعترضت لأنهم عملوا عليها بروفات شهرين من الأول، فقلت هو أنا هعدل المايل هروح وأنا وحظي يكفي أني هعزف للست".

في ذلك الحين قرر السنباطي أن يتم إحضار ميكروفون خاص له، ويتم غلق كل الميكروفونات عن بقية الفرقة، ويترك عبد الفضيل يستكمل وحده عزف المقطوعة: "بعد ما خلصت عزف لقيت السنباطي بيخبرني أني هكون عضوا دائما في الفرقة، عزفت معه ست أغنيات "ليلة حب" و"أقبل الليل"، و"من أجل عينيك"، وثلاثة ألحان مع بليغ حمدي، واثنين مع محمد عبد الوهاب، وسيد مكاوي في أغنية "يا مسهرني".

"لو كان فيه جيش عايز يحتل مصر عليه أن يحضر في أول خميس من كل شهر الساعة 10 مساءً، مع بداية حفلة الست هيلاقي البلد فاضية، والكل داير في فلكها!"، بتلقائية نابعة من قلبه يصف عبد الفضيل المشهد في القاهرة وضواحيها، لحظة أن تعلن الإذاعة المصرية من خلال مقدمة يُلقيها المذيع الراحل "جلال معوض" وقوف السيدة أم كلثوم على خشبة المسرح في صحبة الفرقة الموسيقية لتبدأ أغنيتها الجديدة: "كنا بنقعد قبلها بشهرين نتدرب في ستديو 35 في الإذاعة، لكن كنت بحب أتحرك من بيتي في روض الفرج ــ قبل ما أنقل لعين شمس ــ من قبلها بساعات، أركب التاكسي وأتفرج على مصر وهي في انتظار حفل الست".

كانت القاعة تمتلئ عن آخرها قبل بدء الحفل بدقائق قليلة، ما زالت ذاكرة عبد الفضيل تعيد المشهد ذاته، الممر المخصص لأم كلثوم والفرقة وهو ممتلأ عن جانبيه بالجماهير التي تهتف لها وتقدم الورود، “كنا حين تبدأ الأغنية نجد كما غير طبيعي من الورود حولنا، التذكرة كانت بجنيه واحد، سواء كانت في سينما قصر النيل أو جامعة القاهرة".

رافق عبد الفضيل ــ خلال الخمس سنوات التي قضاها مع أم كلثوم ـــ الفرقة في رحلاتها الخارجية، ما زال يحتفظ بخطاب مهترئة حوافه ذو لون أصفر، يحمل توقيع أم كلثوم للسماح له بالسفر مع الفرقة إلى دبي لإحياء حفل غنائي هناك.

يبكي عبد الفضيل وهو يسرد كواليس آخر حفل لـ"الست" على المسرح قبل رحيلها: "آخر حفل لها بحضور الجماهير كانت أغنية "القلب يعشق كل جميل"، مدة الأغنية كانت ساعة وتَدربنا على هذا الأساس خلال شهر التمرين، وجدناها بعد مرور أول ثلث ساعة فقط أوقفت الغناء وتغيرت ملاح وجهها، حسينا وقتها أن دي هتكون آخر حفلة للست" وقد كان!

إحضار التشيللو والجلوس على الكرسي الأوسط بالصالة والانخراط في الأجواء التي سبق ونسج خيوطها رفقة زملائه بالفرقة منذ أكثر من أربعين عاما، أصبح طقسا يوميا يداوم عليه عبد الفضيل، مع زوجته "سعاد" التي تزوجها منذ نحو ست سنوات، بعد وفاة أم الأولاد وزواجهم جميعا: "سعاد متعودة تيجي تقعد جنبي وأنا بعزف حاجة من اللي عزفتها زمان للست وتدندن بصوتها".

بصوت ذو خامة رفيعة متناسب مع حرفية أصابع عبد الفضيل فوق أوتار التشيللو، تشرع سعاد في إطلاق المطلع الأول من أغنية "يا مسهرني"، وتقول الأربعينية سعاد ابنة محافظة مطروح: "من وقت ما تزوجته وقالوا لي إنه من أواخر من بقوا من فرقة أم كلثوم، مصدقتش نفسي وحرصت أني أشاركه كل لحظة يستعيد فيها ذكريات الماضي وأكون جزءًا منها".
الجريدة الرسمية