رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

المسلمون والشيزوفرينيا الدينية


"ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل"، هذه الجملة التي صاغها الإمام أبو الحسن البصري، أعتبرها إجابة موجزة وصائبة على السؤال الأكثر تعقيدًا عن معنى التدين الصحيح، وعلى كيفية تحويل العقيدة التي استقرت في قلوبنا إلى أفعال تتلفظ بها جوارحنا، وتنهض معها إنسانيتنا، لإثبات أن الدين ليس لسانًا يتحدث بلغة عقيمة لا تجد لها مقابلًا أو حتى معادلًا في لغة الفعل، بل هو سلوك وأثر يرتقي بصاحبه إلى أعلى درجات الإنسانية.


تقودنا جملة الإمام أبي الحسن البصري إلى إدراك الحالة المرَضية المسماة "بالشيزوفرينيا الدينية" أو حالة الانفصام الديني، التي تمثل شرخًا كبيرًا بين المعتقد والسلوك، بين التعليم والتطبيق، بين الحالة الوجدانية والصورة الذهنية عن التدين ومردودها في عالم الواقع؛ إنها الحالة التي يترجمها الصراع بين التجمل الشكلي المغشوش، والواقع الفعلي لإنجازاتنا والمناقض - في الغالب - لتلك الصورة المتجملة.

لا أبالغ إن قلت إن الشيزوفرينيا الدينية هي الحالة التي يتعطل معها الرادع الأخلاقي الأعظم وهو الضمير، ليحل محله الدين في صورة أداة أيديولوجية، توظفه وتتنمر بردائه لتحقيق مآرب معينة، ولإقصاء من يعارضها، حتى وإن اقتضى الأمر التخلص منه نهائيًا.

وبامتياز وبشكل لافت تجذرت هيمنة الفكر الوحشي المتلحف بالدين وانتشر أتباعه يكفرون ويخونون ويقطعون الرءوس ويستحلون النساء؛ في حالة من الانفصام التام بين الدين والإنسان، لقد عايش التاريخ تلك الحالة بين الأديان السماوية الثلاثة، فالصهيونية تفترس حق الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا في أرضه باسم اليهودية، والحروب الصليبية أبادت المسلمين باسم المسيحية، وداعش وأخواتها يكفرون ويقتلون باسم الإسلام.

هؤلاء عمدوا إلى التدين الشكلي الأجوف، وصنعوا تابوهات (محرمات) خاصة بهم عبر المقدسات والمظاهر الشكلية؛ فقط كي يبرروا لأنفسهم في حالة من الوعي أو اللاوعي أن الشر الذي سيقومون به هو خير وفرض، لا يستشعرون معه بوخزة ضمير أو ندم، لقد أثبت واقع الجماعات الإرهابية المتطرفة أنهم يعانون حالة مستعصية من الشيزوفرينيا الدينية؛ فهم يقتلون باسم الله ويعصونه ويخالفون تعاليمه، فيتعاطون المواد المخدرة، ويسرقون، ويستحلون النساء؛ كل شيء منهي عنه مباح ومبرر، فقط لأن بعضهم أطلق اللحى، وقصر الثياب، وحمل السيوف وظن أنه ملاك الله في الأرض لا يخطئ ولا يظلم.

لا تقتصر تلك الحالة المرضية على الجماعات الإرهابية فقط، بل قد نرى أعراضها واضحة على مستوى الفرد المسلم إذا ما وقفنا برهة أمام سلوكه اليومي، ولاحظنا الصلة بين هذا السلوك وبين المعتقد الديني، عندئذ سنستشعر فجوة كبيرة جدا بينهما، تبلغ حد التناقض في كثير من الأفعال وردود الأفعال..

فالكذب والنفاق والتملق حرام، لكن تحت مسوغ الضرورات تبيح المحظورات والمصلحة تقتضي ذلك، فكل شيء مباح؛ أُمرنا بالصدق والإخلاص والصدع بالحق، لكن الواقع يثبت - بما لا يدع مجالا للإنكار- أننا صرنا متميزين في التزييف وقلب الحقائق ومعاونة الباطل والتصفيق له؛ عباداتنا تنهي عن الفحشاء والمنكر، لكن لا مانع من التعبد في الظاهر وارتكاب الفواحش في الباطن وربنا ستار حليم.

تلك أمثلة قليلة جدا لبعض مشاهد الشيزوفرينيا التي لا تعد ولا تحصى وكلنا نعاني منها بمراتب متفاوتة، والبعض منا يفعل ذلك دون أن يدرك تمكن تلك الحالة المرضية منه، والحاجة الملحة للتعافي منها، لقد صار التدين -في بعض حالاته- في مجتمعاتنا الإسلامية مصبوغًا بالصبغة الميكافيلية، فالغايات والمصالح والرغبات هي التي تتحكم وتوجه، أما الدين فهو إحدى الوسائل التي قد تستخدم لتحقيق تلك المآرب وتجميل الصورة وتبريرها.

لقد تسببت تلك الحالة المرضية "الشيزوفرينيا الدينية" في إشاعة حالة عامة من غياب الثقة في المجتمع، في الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد، وأماكن العمل والتسوق؛ حيث التعامل مع الآخرين بقداسة مؤقتة زائفة، ومشاعر وصراعات متأرجحة، ما بين ادعاء المثالية وحجب النواقص من أنانية، وكذب، وتقمص دور الواعظ، الذي لا يجيد سوى الحديث والتذكير بالرابط والرقيب الإلهي..

وهو ذاته وهو خارج دائرة الوعظ يتجاهل هذا الرابط ويستهين بتلك الرقابة، حيث يظهر الوجه الآخر المترجم لعالمه الداخلي المستتر خلف قناع الدين والوعظ، هؤلاء هم شرار الناس الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن شر الناس عند الله يوم القيامة ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه".

إننا في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية لم يعد أمامنا سوى أن نصارح أنفسنا بواقعنا المرير، وأن نبحث بموضوعية عن أسباب العوار الذي لحق بنا، التي من بينها، ومن أهمها الفجوة بين التدين المزعوم والسلوك المأمول.

نحتاج إلى أن نجعل من كلمة "الدين المعاملة" أولى مفردات التدين وأجمل معنى تترجمه إنسانية الفعل وليس عبقرية اللفظ، لقد أدرك الغرب هذا الأمر بعمق شديد، وصنع به أبجدياته الحضارية، لكننا ما زلنا نتخبط ونتغنى باللفظ دون تفسير لمعناه بفعل يدلل عليه، ويغنينا عن التشدق به.
Advertisements
الجريدة الرسمية