رئيس التحرير
عصام كامل

إعلام الدولة


اشتري صبي بنطلونا ولكنه كان أطول منه، فطلب من أمه أن تقصره ٤ سم، ولكنها كانت مشغولة فطلب من أخته أن تقصره ولكنها اعتذرت بأنها تحضر العشاء، فذهب إلى محل الخياطة فقصره بعد أن استلف من زميله أجرة الخياط، وعاد إلى المنزل ووضع ثوبه في دولابه ونام كي يلبسه في الغد للمدرسة.


غير أن الأم حنَّ قلبها وذهبت إلى غرفة الابن وأخرجت الثوب وقصرته 4 سم وأعادته إلى الدولاب، والأخت الكبيرة بعد أن أكملت تجهيز العشاء رقَّ قلبها وذهبت إلى غرفة أخيها وقصرت الثوب 4 سم ثم أعادته، وفي الصباح استيقظ الولد وهو مبتهج بثوبه الجديد يريد أن يلبسه ليريه زملاءه وإذا به يتفاجأ أن ثوبه أصبح للركبة.. ولم يستطع أن يلبسه وحزن حزنًا كبيرًا.

والخلاصة والنتيجة:
"إذا كان الفريق يعمل دون تنسيق مسبق؛ فإنه سيفشل فشلا ذريعًا، رغم التضحيات الكبيرة وتوفر النوايا الطيبة"!!

شيء مثل هذا حدث لإعلام الدولة أو إعلام الشعب عندما راح كل من هب ودب بدون سابق خبرة في تقليم ماسبيرو والصحف القومية ووكالة الأنباء (ا ش ا) الرسمية، أعرق وكالات المنطقة، واتجه الجميع في توقيت واحد يقزمون هذا الإعلام، بالتوازي مع الاهتمام ورعاية وتبني الإعلام الخاص، وكان أن هجرت معظم كفاءات إعلام الدولة أماكنها وانتقلت فيما يشبه الهجرة الجماعية لقنوات ومواقع وصحف القطاع الخاص..

حتى تم تفريغ إعلام الشعب من كوادره وخبرائه، وذهبوا حيث الذهب، والغريب أنهم ظلوا يحتفظون بشعرة معاوية يذهبون شهريا ليقبضوا مرتباتهم وحوافزهم، وبعد تحويل المرتبات على البنوك لم يعد أحد منهم يذهب حتى لزيارة المواقع التي تربوا فيها مهنيا وصاحبة الفضل عليهم، وظلت صحفهم وقنواتهم تدفع لهم التأمينات الاجتماعية والصحية لأن ملاك الإعلام الجديد لا يقومون بالتأمين على من يعملون معهم، ورغم أن عمليات التجريف تلك مستمرة منذ سنوات تقترب من العشر سنوات..

لم تتوقف أي جهة من جهات الدولة لحماية مواقعها والحفاظ عليها، وبعدما كان منتجو الدراما يحلمون بإهداء أي مسلسل لماسبيرو ويتمنون عرضه على قنوات التليفزيون المصري، بات المنتجون يضعون تلك القنوات في مؤخرة اهتماماتهم، ثم كان خروج قطاع الإنتاج من الملعب وإحالته على المعاش، راح المغامرون يشكلون وعي الأمة بإنتاج رديء يخاطب الغرائز ويبث كل ما هو سلبي..

ولم تعد قلعة ماسبيرو قادرة على إنتاج برنامج واحد للتوك شو، أو تقديم نشرة أخبار حيوية تجذب المشاهد المتعطش للمعرفة والمتابعة، وكان أن ذهب المشاهد لقنوات أخرى، وبالتالي ذهبت الإعلانات لقنوات أخرى نجحت في تقديم خلطة إعلامية مقبولة...
(ما ينطبق على ماسبيرو ينطبق على المؤسسات القومية الصحفية).

وربما تكون القنوات والمواقع والصحف الخاصة بتنوعها قد نجحت في استقطاب المشاهد المصري وهجر القنوات والصحف الأخرى، ومع لعبة الكراسي الموسيقية بين القنوات والمذيعين ثم عمليات الاندماج والاستحواذ الغامضة ضاعت الشخصية المميزة لتلك القنوات، وأصبحت تشبه بعضها البعض، ومع ندرة المعلومات والانفرادات أصبحت ماسحة في إعادة إنتاج بالضبط لما جرى في ماسبيرو..

فكانت الهجرة الثانية للمشاهدين ذهبوا لتلقي ومشاهدة ما لا يقدمه لهم إعلامهم الوطني سواء في القنوات الخاصة أو ماسبيرو والصحف القومية.

وعندما وقعت حادث قنصلية السعودية في إسطنبول انتعشت قنوات الجزيرة وأخواتها من قنوات الجماعة الإرهابية في تركيا، ونصبت كل منها سرادقات الشماتة والتحريض على مدار الساعة، بينما كانت معظم وسائل الإعلام العربية غائبة أو مغيبة، لأنها بلا معلومات أو قصص خبرية أو متابعة للحدث، فانفردت الجزيرة وأخواتها بالساحة وبالتالي بالمشاهدين.

وبغض النظر عما آلت إليه الأحداث، فإن الدرس الأهم الآن هو أن الإعلام أصبح من أهم أسلحة وأدوات الدولة، وهو أخطر من أن يترك لبعض الهواة، وأن المحتوى الذكي هو وحده القادر على استعادة الأمة لإعلامها، وأن وسيلة ذلك في المعلومات وتقديمها بشكل ذكي وجذاب، وأن التنوع وتعدد وجهات النظر ليس رجسا أو خطيئة بل هما حائط الصد الأول، الذي يستوعب الجميع تحت مظلة الوطن..

والتعددية هي الفطرة التي خلق الله بها الكون والإنسان حيث لا واحد ولا أحد إلا الله وحده، لأنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، والإعلام أيضا.
الجريدة الرسمية
عاجل