رئيس التحرير
عصام كامل

ابن البيضا!


كنا نخشاه، بل كنا نغير طريقنا ونضطر للدوران حول حارات وأزقة كثيرة مرهقة خشية المرور بجواره، الذي كان بالقطع سيصيبك بأي أذى منه، أقله قاموس شتائم مليء بجميع المفردات المتعلقة بعلم وظائف الأعضاء في أدق تفاصيلها.. كان يمثل لنا كصغار رعبا وفزعا وقوة وبطشا حقيقيا..


كان في مخيلتي امتدادا طبيعيا للمماليك الذين كنا نسمع عن قهرهم للمصريين في أجهزة الراديو، أو حتى نراهم دراميا في مسلسلات التليفزيون المسلية الساذجة، كما كنت أتخيله أيضا فُتوة وبلطجيًا من عصر فتوات مصر قبل يوليو 52.. باختصار كان بمثابة البطش والغدر الذي تخشاه وتنأى بنفسك عن طريقه بأي وسيلة!

كان (عامر) ابن البيضا.. نعم هكذا كان يسميه البعض ثم أصبح الكل يناديه بهذا الاسم الغريب على أسماعنا، فالأب كان موجودا على قيد الحياة، ومُتزوجا من السيدة الفاضلة أمه، التي كانت مجهولة الاسم لنا أيضا، لكنها كانت تشتهر ببياضها الشديد ورقة ملابسها الشفافة التي كانت تكشف عن بشرة بيضاء مجانية تجذب الناظرين كبارا أو حتى صغارا في اشتراكية وتقدمية من نوع خاص جدا جدا!

امتدت بي وبغيري سنوات طوال ولم نعرف اسم أبيه أو أمه، فهو الابن البكري (للبيضا) وحسب.. كان هذا يكفي جدا للتعريف بالسيد عامر الذي كان يبلغ وقتها اثنتي عشر عاما فقط.. لكنها سنوات مليئة بالصعلكة والتشرد وقطع الطريق على الصغار.. وربما بعض الكبار أيضا.. أما عن الأب فلقد كان مكتفيا بكثير من الموبقات التي تجعله في حالة سكر دائم، جعلت منه شخصية درامية لا تفيق أبدا من سكرها كشخصية (بعضشي) في مسرحية سيدتي الجميلة.

كان (عامر) حرامي وفتوة ومجرما لكنه (نتن) فلقد كان يسرق أو يخطف أي شيء ممكن أن تتخيله، ربما يخطف كتابا من يد تلميذ لن يفعل به شيئا سوى مساومته عليه مقابل قرش صاغ أو اثنين أو حتى قطعة حلوى، أو ربما اكتفى بمجرد رؤيته التلميذ يتوسل إليه في سادية كبيرة على صبي في مثل عمره، كان يخطف مثلا كوز ذرة مشوي من البائع المتجول الذي يخرج على باب الله لبيع ما تيسر من الذرة في جنبات حينا الشعبي الفقير!

أحيانا كان يتدنى لسرقة ربع سيجارة في رمقها الأخير في يد أحد المارة، فيخطفها في خفة ويجري بها، ويشد الأنفاس المحتضرة منها ثم يصدح بغناء رائعة شعبية أو حتى كلثومية يحور كلماتها ويبدلها في ذكاء وعبقرية إلى شيء آخر تماما مقزز وصفيق لكنه يحمل النغمة نفسها بل المازورة نفسها!

اكتسب (عامر) ملامح إجرامية جعلت من وجهه الصغير شيخا طاعنا، لكنه للأسف كان يمتلك أيضا ذكاءً حادا وبديهة شديدة التوقد، كان يمكن لعامر أن يصير عالما عبقريا أو بطل ألعاب قوى ينافس في أقوى البطولات، لو وجد بيئة طبيعية أو مجرد أب وأم بهما قدر يسير من الصلاح..

كان "عامر" ضحية لمجتمع بدأ في الانهيار مع انفتاح "السادات" وغلبة القيم الفاسدة على كل شيء نبيل وجميل.

المهم أن أسطورة "عامر" قد اهتزت أو توقفت لفترة بعد حادثة شهيرة وقعت له، فلقد كان يوما يتوعدنا في خروجنا من المدرسة الابتدائية، وينتظر مجيئنا فردا فردا حتى يمارس قوته الغاشمة علينا، لكننا تجمعنا وأعددنا له كمينا محترما.. تجرأ أحدنا وصمم على ضربه بسرعة وإسقاطه أرضا بشرط أن نلاحقه جميعا في ضربة (رجل) واحد..

تماما كما كنا نرى تنمر الكفار وتآمرهم في الأفلام التاريخية ضد الرسول عليه الصلاة والسلام.. لكن "عامر" لم يكن رسولا.. كنا نعتبره من الكفار بل زعيمهم وسيدهم وربما كان (أبو مرة ) الشيطان نفسه!

وفي شجاعة نادرة تقدم أحدنا وركل عامر بخفة وسرعة مثل (بروسلي) بطل الكونغ فو الأشهر، الذي كان معشوقا لجيلنا في سينمات الترسو في دمنهور وجميع أنحاء مصر بالطبع.. سقط الصبي الصغير متألما، فسقطنا عليه ولم نتركه إلا وهو يستغيث ويصيح ويتوسل لنا أن نكف عن ضربه وإهدار كرامته..

لكننا تجرأنا عليه ومارسنا سادية طفولية بدورنا حتى نعوض نقص سنين من العذاب على يديه فقلنا له: لا تنادينا باسمنا كده حاف يا صايع، كل واحد فينا اسمه الأستاذ فلان أو الدكتور أو المهندس أو الضابط حسب رغبة كل منا في رؤية مستقبله، لكنني كنت أكثر طيبة أو سذاجة واكتفيت في تواضع جم أن يناديني بالفنان فلقد كنت أرى نفسي ممثلا!..

وانتهت أسطورة عامر للأبد ورأيته بعد سنوات طوال بجلباب قصير ولحية طويلة مصاحبا لثلة من السلفيين تأييدا لأحد مرشحيهم.. ابن البيضا صار سياسيا ودعويا!
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية