رئيس التحرير
عصام كامل

البيت المصري الحزين (2)


انفجارات شكمانية

استقبل القراء الجزء الماضي من البيت المصري الحزين استقبال الشخص الذي على رأسه بطحة! كأنما رفعت الغطاء عن بئر عميقة مملوءة بالدموع والأحزان والسكوت الناطق بالقهر والعجز والقسوة، وروى لي كثيرون حكايات من أحزانهم، وشاركتهم أحزاني ودموعي، ورحنا نلعن اليوم الذي بلغنا فيه عصر الثورة التكنولوجية بمراحلها وموجاتها، ونحن الآن في الموجة الخامسة منها، أو عصر الثورة الصناعية الرابعة..


ورحنا نتحسر على الراديو الكبير ثم على الترانزستور ثم على تليفزيون زمان وقناته الأولى والأخيرة، لأن الثانية كانت شاشة مملوءة بحبات الأرز الأبيض والرمادي لسوء الإرسال، ومسلسل الثامنة ولمة الأسرة على مشاهدة النجوم، اليوم يدفن كل أفراد الأسرة وجوههم في موبايل له شاشة قد الكف، مفتوحة على مليارات البشر، يسمع منهم ويسمعون منه، يكتب لهم ويكتبون له ويفتح الكاميرات فيَراهم ويرونه، وهو يفعل ذلك بهِمة ووله واستغراق كامل..

وهم كذلك يفعلونه بهمة ووله واستغراق شامل عميق، بينما الذين من حولهم، أقرب الناس إليهم اختاروا الغرباء في المسافات وفي العلاقات وفي الزمن، لم يعودوا يمثلون أدنى أهمية، ولا رغبة أساسًا في التواصل معهم.

تدخل الأم بالطعام وتضع الأطباق على السفرة وكل أفراد الآسرة انكفأت رءوسهم في هذه القطعة الصغيرة المضيئة الكاشفة، وحين تصرخ فيهم لجذب الانتباه يأكلون بيد ويتعاملون مع أزرار الموبايل بأصابع اليد الأخرى وأحيانا بأصابع خارجة من دهون الطعام!

والأم نفسها لا تلبث أن يرن موبايلها فتسرع إلى رفعه ودفسه ما بين كتفها وأذنها، حيث نشأت حفرة من اعتياد الدفس، وهات يا شات!

الشات هي الثرثرة، الأسرة المصرية في حالة ثرثرة والثرثرة هي الغث التافه من الكلام، لكنه كلام مدفوع الفواتير المحملة بالضرائب والكارت المشحون بمائة جنيه صاف مدفوع له خمسين أخرى ضرائب.. وتنتهي الباقة وهب اشحن مرة أخرى واشحن لي يا بابا.. والأب مفلس محتقن يكاد يطق ينفجر جلطات!

وحتى الضيوف إذا هبطوا، وضيوف هذه الأيام جبلات من النوع الذي يهبط عليك هبوط الكائنات الفضائية، فإنهم بعد الدقائق الأولى من السلام والترحيب، لا يلبثون أن يتصفحوا الشاشات، ويعلقون على وجوههم ابتسامة شاحبة جامدة تعبيرا عن أنهم معك يصغون إليك وأنت تحكي عن فقع مرارتك المستمر في هذا البيت، لماذا جاءوا أساسا إذا كانت زيارتهم هي تصفح الموبايل والرد على الرسائل وكتابة لايك وكومنت!؟ افعلوها في بيوتكم. 

البيت المصري فقد فضيلة الحوار، واستبدلها برذيلتين يواظب على طقوسهما كأنهما منتهى أمله في الدنيا: الأولى السكوت الناتج عن الهمس واللمس عبر الشات، والثانية هي الانفجارات الصوتية المفاجئة، روت لي سيدة كيف انفجر شكمان زوجها في وجهها، قالت دخلت عليه أفاجئه بقطعة كيك وكوب شاي، والظاهر أنه كان مستغرقا جدا فلم يشعر بوقوفي فوق رأسه أحاول بصعوبة قراءة ما يكتبه لأني ساعتها كنت بلا نظارتي!

لما رأيت الرسومات الدالة على حالته المزاجية، وأنه منشكح فرحان ويرسل لمن يتحادث معها قلوبًا ملونة وبالونات وهو مسخسخ من الانبساط، قلت مُحتجةً: بتعمل إيه يا علي!

علي لم ينطق، علي انفجر، وأطاح بصينية الشاي والكيك فملتُ برأسي بسرعة أتفاداها، وأخذ يلومني بحجة أنني أتجسس عليه، بصراحة هذا رجل وقح ويستحق ما جرى له: هي أيضا كانت تملك شكمانًا أقوى من شكمانه، بل إن شكمانها مسرسع وله ماسورتان، وكلاهما مخروم، وهكذا كان صوتاهما انفجارات متتالية بلغت العمارة بسكانها وملأت هواء الشارع بدخان محمل بالسباب والهباب!

لم يعد ثمة كلام في بيوتنا بل زعيق متوازٍ، لا أحد يرغب في الفهم بقدر رغبته في لوم الآخر وإدانته وتحقيريه، بيتٌ بهذا الوضع لم يعد بيتا بل فخا، ومأوى للنكد والأوجاع النفسية، والهروب إلى المرض، والهروب إلى الجرائم المروعة التي نتابعها أخبارها يوميا كأنما هي نشرة الأحوال الجوية!

الكلام حاجة أساسية من حاجات الإنسان، دونها هو حيوان، يمتلئ بالضلالات وسوء الفهم الذي يراكم سوء الظن، ومنهما تخرج قرارات بالخيانة أو القتل أو الطلاق!

تكلموا إلى بعضكم البعض، كيف تستبدل القريب بالغريب!
الجريدة الرسمية