رئيس التحرير
عصام كامل

من أفسد الصحفيين؟!


لماذا يندهش البعض كلما ترددت أنباء عن صحفي حصل من مصدره على أموال، يعتبرها المصدر "هدية"، ويراها الصحفي "مكافأة"، بينما تصنفها قوانين المهنة والقيم الأخلاقية على أنها "رشوة"؟، وهل ما زال بيننا نحن الصحفيون، من يعتبر زملاءه في المهنة ملائكة بأجنحة، أو فرسانا نذروا حياتهم للدفاع عن المظلوم، وإغاثة الملهوف، ومواجهة ظلم الحاكم، دون أن يجتهد قليلا وينظر حوله، ويقدر حجم الفساد الذي طال تلك المهنة الشريفة، مثلما طال كل مجالات الحياة في مصر؟!


مهنتنا طوال تاريخها، تضم شرفاء فقراء، يعيشون بالكاد، يعجزون أحيانا عن دفع إيجار مساكنهم، ومصروفات مدارس أبنائهم، يختبئون من محصل الكهرباء أو الغاز، وتضم في الجانب الآخر، أثرياء عرفوا سر اللعبة وقبلوا بها، عقدوا الصفقات، وأجروا أقلامهم لمن يدفع، دافعوا عن طرف وقبضوا منه، أو هاجموه وقبضوا من خصمه، فوصلوا إلى متعة الحياة ورفاهيتها، عاشوا في الفيلات، وركبوا أفخر السيارات، وصاروا خبراء في ملفاتهم، تحتكم إليهم الفضائيات كلما احتاجت إلى قول فصل، في موضوع شائك!

نعرف جميعا، أن بيننا كثيرين، يعيشون على بدل التدريب الذي تصرفه النقابة، الذي يساومهم عليه أحيانا ملاك الصحف، فيَمنحونهم عضوية النقابة، مقابل أن يعملوا في صحفهم مجانا، أو برواتب ضئيلة، رغم أن كثيرًا من هؤلاء يمتلكون الموهبة، فهل المهنة التي تفعل ذلك بأبنائها الموهوبين، هي ذات المهنة التي تمنح الثروة والشهرة لفريق آخر من أبنائها، يكون غالبا – سبحان الله – من محدودي الموهبة والثقافة؟

لماذا نندهش وكل منا شاهد وسمع ورأى، صفقات يعقدها رؤساء تحرير ويجنون من ورائها الملايين، نقدا أو في صورة إعلانات لصُحفهم، هل نسيتم ممدوح إسماعيل الذي أغرق في عبارته 1300 مصري، وأغرق الصحف المصرية بملايين الدولارات لتدافع عنه، وتتبنى وجهة نظره؟

وهل ذاكرة السمك التي نتمتع بها، فقدت الحكايات المسلية للأمير تركي بن عبد العزيز، وزوجته هند الفاسي، التي كانت تسجن العمال والخدم المصريين في الدور 28 من فندق رمسيس هيلتون، فيكتب هؤلاء المساكين رسائل الاستغاثة، ويضعونها في زجاجات المياه الفارغة، ويلقونها على المارة في ميدان عبد المنعم رياض، لعل أحدا ينتبه ويبادر إلى فك أسرهم، بينما يُخيم الصمت المريب على غالبية الصحف المصرية، بسبب طوفان الصفحات المدفوعة، التي كان يوزعها الأمير وزوجته على الصحف، ويقبض عمولاتها صحفي معروف؟

لماذا لا ننبش الذاكرة، لنستعيد ذكرى واقعة حصول رؤساء تحرير الصحف المصرية على سيارات مرسيدس في التسعينيات، هدية من صدام حسين، أثناء مرافقتهم حسني مبارك في زيارته للعراق، وساعتها فرحنا وهَللنا وكبرنا وسجدنا لله شكرا، لأن واحد فقط من رؤساء التحرير رفض الهدية؟

وماذا عن أموال القذافي، التي كانت تمول عدة صحف مصرية معروفة بالاسم، مقابل أن تمجد تلك الصحف هذا المختل، وتصفق لكل مغامراته المضحكة، ولا تتورع عن نشر متابعات مكثفة، لحصول القذافي على لقب ملك ملوك أفريقيا، بل قامت إحداها بنشر الكتاب الأخضر الذي ألفه القذافي واعتبره دستور ليبيا، على حلقات، في صفحات إعلانية مدفوعة الأجر، وتحت سمع وبصر دولة مبارك ومهندس إعلامه صفوت الشريف؟

يروي عن الساخر العظيم محمود السعدني، أنه التقى في نادي الصحفيين الذي أسسه على النيل، صحفيا كان يصدر جريدة لا يسمع بها أحد، ويكتب كل موضوعاتها تمجيدا في القذافي، نادى السعدني صاحبنا بخفة ظله المعروفة وسأله: انت بتاخد فلوس يا واد من القذافي على الكلام اللي بتكتبه ده؟ فرد الصحفي بالنفي، فقال له السعدني: لما تنافق خد فلوس، لكن لما تكتب الكلام ده مجانا، تبقي منافق وحمار!

والغريب أن اثنين من الصحفيين تورطا مؤخرا في قضية فساد بوزارة التموين، فكانت النغمة السائدة في تعليقات المتابعين، أننا يجب أن نترك الأمر للقضاء، لكن عندما تعلق الأمر بشخصية عربية يثور حولها جدل كبير منذ فترة، قامت الدنيا ولم تقعد، وكأننا نسمع للمرة الأولى عن "المظروف" الذي ينتظر بعض الصحفيين عند خروجهم من مؤتمر أو اجتماع..

وكأن الذين كتبوا وهاجموا وطالبوا بالتحقيق، لا يعرفون زميلا واحدا من زملائهم، نشر موضوعا مدفوعا، أو استثمر انتخابات الأندية الرياضية، فعَقد اتفاقا مع إحدى الجبهات ليُدعمها مقابل رشوة، أو هدية، أو إعلانات، كأن هؤلاء لم يعملوا من قبل مع رؤساء تحرير، كانوا يدللون المحررين الذين يعملون بالإعلانات، فيَمنحونهم أعلى الرواتب، بخلاف العمولات، وبخلاف أنهم أصحاب مكانة رفيعة، لا تستدعي منهم أن يتحملوا مشاق الذهاب للصحيفة كل يوم، فيكفي أن يرسلوا كتاباتهم العظيمة، عبر الفاكس، وفي مرحلة لاحقة على الإيميل!

الصحافة يا زملاء، فقدت شرفها، ونبلها، منذ أن أصبح محرر الوزارة، مندوبا للوزارة في صحيفته وليس العكس، منذ أن تخلت الصحف عن صدقها مع القارئ واحترامها له، فلم تعد تكتب على التحقيقات والتقارير والحوارات المدفوعة، عبارة "إعلان تحريري"، لتُنبه القارئ إلى أنه يقرأ مادة مدفوعة الأجر، منذ أن أصبح نموذج الصحفي مندوبًا للإعلانات هو القدوة والمثل الأعلى، يعتبره زملاؤه الفقراء، صاحب نظرة ثاقبة، ورؤية واقعية وعملية، إلى جانب كونه محظوظا ورزقه واسع، بدليل أن بعضا من هؤلاء، استطاع بعلاقاته، وأمواله، وخدماته التي يقدمها أحيانا بالمخالفة للقانون، عضوا بمجلس نقابة الصحفيين في فترات مختلفة، وبأصوات كاسحة!

وفي المقابل هناك من دخل إلى بلاط صاحبة الجلالة، متسلحا بأحلامه، ونبله، وثقافته، وموهبته، ورؤيته للحياة، وتصوره للمجتمع المثالي، فلم يجن سوى الفقر، وقلة الحيلة، واضطهاد القادة، حلم بمهنة النبلاء كما لو كانت حبيبته الجميلة البكر، وعندما صدمته الحقيقة المرة، خرج يردد أزجال بيرم التونسي عن الملكة نازلي: العطفة من قبل النظام مفتوحة، والوزة من قبل الفرح مدبوحة!

فساد الصحافة بدأ يتوحش منذ عقود، وزاد توحشه مع صحافة رجال الأعمال، التي تدافع عن صاحب "السبوبة" بالحق والباطل، وتهاجم خصوم "صاحب السبوبة" بالحق والباطل، فسادنا هو جزء من فساد المجتمع كله، بعضنا قفز في سفينة الثروة والسلطة وحقق أحلامه، وبعضنا حاول أن يفعل لكنه فشل، وبعضنا ترفع، ورضي، وقبض على مبادئه، لكننا جميعا مذنبون، وبصوت أحمد زكي: كلنا فاسدون، لا أستثني أحدا، حتى بالصمت العاجز قليل الحيلة!
الجريدة الرسمية