رئيس التحرير
عصام كامل

سرغضب عبد الناصر من الصاغ الأحمر.. الديمقراطية يا ريس

خالد محيي الدين
خالد محيي الدين

كان واحدًا من هؤلاء المتمسكين بمبادئهم على طول الطريق، رأى أن الثورة على الملكية فرض واجب، وأن الديمقراطية السبيل الوحيد لصلاح حال البلاد والعباد، وقف وحيدًا في مواجهة ديكتاتوريات مجلس قيادة الثورة الذين كان واحدًا من أعضائه، وعلى رأسهم الزعيم جمال عبد الناصر، من أجل حياة أفضل لمصر وأبنائها.


من أجل المبادئ فقط، خاض خالد محيي الدين صراعات وتعرض لتهديدات ونفي خارج بلاده، نسرد هنا بعضًا مما جاء على لسانه من دفتر حكايات ثورة الضباط الأحرار.

كان واحدًا من المدبرين والمخططين لقيام ثورة يوليو ومع انطلاق أول شرارة لها قرر أن يتخذ موقفًا واضحًا أبعد عنه رفقاء الطريق وتحول بفعل فاعل لعدو، كيف بدأ الخلاف وإلى أين انتهى؟

علاقته بالضباط الفرسان
كانت علاقة محيي الدين بـ«ضباط الفرسان» سببًا قويًّا لنشوب خلاف بينه وبين الضباط الأحرار، في الحقيقة لم يكن خلافًا واضح المعالم لكنه كان خلافًا مكتومًا دون تضييق أو إزعاج من أي الطرفين إذا وجد صراعًا داخليًّا بين المجموعات.

وفي هذا السياق يقول خالد محيي الدين، الذي لقب بالصاغ الأحمر؛ نظرًا لتبنيه الفكر الشيوعي في سيرته الذاتية المعنونة بـ«الآن اتكلم»: «النهج المحايد بين الطرفين لم يكن مقبولاً من جانب بعض الزملاء في مجلس قيادة الثورة، وكانوا ينتقدون وبشدة تمسكي بعلاقات وثيقة مع ضباط الفرسان بينما كنت أرى أن ضباط الفرسان متوترون ويجب أن أستمر في العلاقة معهم لتفهم موقفهم وشرح مواقف القيادة لهم».

وفند خالد محيي الدين ذلك الموقف المقارب لكلا الطرفين بأنه حفاظًا على الثورة ومستقبلها إذ يقول: «هذه العلاقة كانت ضرورية وصحية، وأن افتقادها سوف يفقدنا إمكانية ترشيد التوتر ومصدرًا مهمًّا للمعلومات عن أي تحركات ضدنا – في إشارة إلى مجلس قيادة الثورة – من هؤلاء الضباط».

حتى ذلك الوقت لم يكن الخلاف وصل إلى أوجّه، وكان الأمر متوقفًا على اختلاف في وجهات النظر من الممكن التوصل إلى حل وسط بين كل تلك الأطراف.

الخلاف حول الإعدام
في خضم الأيام الأولى للثورة سادت حالة من الاستياء داخل ضباط المدفعية وحدثت اجتماعات ولقاءات بغرض الانقلاب على مجلس قيادة الثورة دون أن يحركوا ساكنًا على الأرض ووصلت الأخبار سريعًا إلى مجلس قيادة الثورة، ليبدأ في اتخاذ موقف لوقف تلك المحاولات قبل أن تولد، إلا أن حرصهم على مقاعدهم في مجلس قيادة الثورة، أرادوا إصدار أحكام الإعدام على كل من التقى إلى تلك الكلمات التي تحث على الانقلاب عليهم أو شارك فيها أو استمع إليها، وكان مبررهم أن الإعدام سيكون رادعًا قويًّا تجاه أي محاولات أخرى في المستقبل، وهنا جاء دور خالد محيي الدين ليقف كالشوكة في حلق مجلس القيادة ويرفض بشدة واستماتة صدور أي أحكام بالإعدام على الضباط مما أثار استياء العديد من ضباط المجلس ضده.

يذكر محيي الدين في سيرته الذاتية أن جمال عبد الناصر لم يكن مع صدور أحكام الإعدام قائلاً: «نمنا جميعًا في مكتب رئاسة الجيش بكوبري القبة، ونام جمال عبد الناصر إلى جواري وهمس قائلاً: أنا موافق على رأيك، خليك متمسك به وأنا سأؤيدك، وقلت له: يا جمال، أنا ضميري لن يسمح لي بالتوقيع على حكم إعدام ضد أحد الضباط».

الحل في عودة الحياة النيابية
السلطة قادرة على أن تغري الجميع، واختلف الرفقاء فيما بينهم على القيادة، حاصر جمال عبد الناصر ورفقاؤه محمد نجيب الذي كان يشغل منصب رئيس الجمهورية أنذاك، وبدأت مناورات سياسية تدور فيما بينهم وألقى نجيب بآخر أوراقه إذ تقدم باستقالته من رئاسة الجمهورية ليحرج مجلس قيادة الثورة، وبدأ الجميع في محاولة الوصول إلى حل لتلك الأزمة المتفشية يقول محيي الدين: «كان الحديث لحل أزمة استقالة نجيب أن تشكل لجنة استشارية إلا أنني رفضتها وقلت: علينا أن نعلن البدء في فترة الاستعداد لعودة الحياة النيابية، وأن نعمل في هذه الحالة على مسايرة نجيب في المدة المتبقية من فترة الانتقال التي لا تزيد على عام ونصف، لكن جميع الزملاء كانوا من حيث المبدأ ضد عودة الحياة النيابية»

هنا ظهرت أزمة جديدة - قديمة الطرح – عندما ذهب جمال عبد الناصر إلى ضباط المدرعات الذين أعربوا بشدة رفضهم قبول استقالة محمد نجيب وطالبوا بعودته ولو دون سلطات، وعلى ضرورة عودة الحياة النيابية.

ورطة قرارات "26 – 27" فبراير
لما زاد الضغط على مجلس قيادة الثورة وبات ضروريًّا عليهم أن يعيدوا النظر في قراراتهم اقترح جمال عبد الناصر عدة اقتراحات سميت فيما بعد بـ"قرارات 26 – 27 فبراير" – التي ألغيت قبل أن تنفذ - ويذكر الصاغ الأحمر في كتابه تلك الفترة قائلاً: «فوجئت بجمال يقدم اقتراحًا غريبًا ومثيرًا في آنٍ واحدٍ «محمد نجيب يعود، مجلس الثورة يستقيل، تشكل حكومة مدنية برئاسة خالد محيي الدين، تعود الحياة النيابية خلال فترة أقصاها ستة أشهر».

ويستطرد: «أي ورطة أرادوا أن يضعوني فيها الرفقاء وأن أواجه الجميع وحدي وبأي سلطة سأحكم إذا كان الجميع سيستقيلون».

«ساعة واحدة، ستون دقيقة كانت كافية لأن يتغير موقف مجلس قيادة الثورة ضدي وأن تلغى كل القرارات وأن يتم الحديث عن إبعادي واعتقالي، فقط لتمسكي بموقفي بعودة الحياة النيابية» يقول خالد محيي الدين في مذكراته.

قرارات 5 مارس.. الانحياز للديمقراطية
«يا جمال أنا مع الثورة الديمقراطية، وكل أمنيتي أن تستمر الثورة ولكن في إطار ديمقراطي» مبديًا خالد محيي الدين عن رضاه عن قرارات 5 مارس 1954، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن ثمة مناورة تدور داخل مجلس قيادة الثورة هدفها إرباك الوضع وتعقيده أكثر، وطرح العديد من الرؤى والاختلاف عليها واكتساب المزيد من الوقت والمساحة من أجل الإمساك بتلابيب السلطة بعيدًا عن أي رؤى ديمقراطية تنغص عليهم أحكام السيادة الكاملة على الدولة.

كان قرار إبعاد خالد محيي الدين هو الحل الأمثل للإنهاء عليه وعلى مواقفه ومن يقف خلفه ويثق في نزاهته ونزاهة أفكاره وفي ذلك يقول: «زرت عبد الناصر يوم 2 أبريل، قطعت الطريق إلى بيته سيرًا على الأقدام، استقبلني عبد الناصر مُرحبا وسألني: ناوي على إيه؟ فقلت: أنا سأتقدم باستقالتي من مجلس الثورة، فقال: "اسمع يا خالد، أُفضِّل إنك تسافر للخارج، فقلت أسافر إلى باريس، فقال: باريس لأ، أنا أفضل أن تكون في مكان هادئ" وقد كان، وغادر بعيدًا في منفاه بسويسرا بإرادة رفقاء الدرب سنوات طوال.
الجريدة الرسمية