رئيس التحرير
عصام كامل

زماكان حواري مصر


وكأن في الأمر عبقرية ما.. حانية هي وجميلة ومتماسكة وكريمة ومتداخلة حواري مصر العتيقة.. المبانى البسيطة المتداخلة لا تعبر عن عشوائية، بل عن عبقرية مكانية تجعل من المنازل قلوبًا وحنايا وشغافًا تكمل بعضها وتتداخل لتكتنف من يسكنها وتسكنه، فقط أخشى أن يغير عليها الطفح الرأسمالى الذي يشوه دروبها الحانية بكتل صماء من الأبراج الخرسانة القاسية والتي لا تشبه قاطنيها في أي شىء!


كلما أوشكت الهموم على هزيمتي والتمكن من روحى، قصدت تلك الحوارى والأزقة حاجا وملبيا لنستوالجيا وذكرى الصفاء والعشرة الطيبة والتداني من الأحبة في غير كلفة أو تصنع.. ذاك اليوم، كان الهم غالبًا والحاجة للبراح شديدة، وبدون أن أدري وجدت نفسي في أحضان إحدى الحوارى الضيقة، أو هكذا تخالها، إن كنت لا تعرف رحابة الحوارى والأزقة وبراحها كل نفس لاجئة لدروبها، ربما لا تدرى الفرق بين رحابة المكان إنشائيًا وضيقه نفسيا وانزوائه على فئة قاسية مثله، هنا فقط..

المكان يختلط بالزمان ويخلق «زماكانًا» مختلفًا كليًا عن زماكان أينشتين وكل علماء الفيزياء، زماكان حان وصلب وعبقرى ومحصن لا يتأثر أصحابه بالتلوث الخلقى والإجتماعى والنفسى المحيط بهم من جوانب كثيرة، تقاوم أنفسهم حتى النهاية، يبقى الود غالبًا والصفاء حاكمًا وصنائع المعروف معروفة وسائدة، هنا فقط بعد صلاة العصر، تجد الست أم محمد جالسة على رصيف بيتها الجميل البسيط الذي لا يرتفع عن الأرض بمقدار كبير، تجلس وأمامها صينية متراصة عليها بأناقة وترتيب وجمال عدة الشاى وأكواب كثيرة استعدادًا لأى ضيف أو حبيب يشاركها كرمها البسيط.

- اتفضل يا ابنى اشرب معانا.. والله لأنت جاى.. أنا زى أمك تعال هنا إقعد معايا واشرب أحلى كوب شاى من إيد أمك!

هكذا دار الحوار بيننا دون سابق معرفة.. فقط لمحتنى وأنا أنظر إليها من طرف غير خفيى، فأنا لم أسكن هذا الحى من قبل، نعم مررت بهذه الحارة مرات عديدة من قبل لكننى لم أسعد برؤيتها سوى الآن، ولكن ربما جمعتنا أشياء كثيرة غير معلومة جعلتنا نشعر برابطة من نوع ما، ربما كانت أرواحنا متشابهة، ربما قرب بيننا شىء ما انطبع علينا بحكم إحتواء حارتنا المتشابهة لنا وإحاطتها بنا من كل جانب.. هي سيدة تجاوزت عقودًا كثيرة من العمر، ترتدى جلبابًا أنيقًا بسيطًا تربينا على رؤيته في طفولتنا، تخلو يدها من أي زينة أو مشغولات ذهبية أو غير ذهبية، فقط يد بسيطة كريمة تجود بكل ما لديها.

لم تسألنى عن اسمى مطلقا، وفقط كانت تنادينى بكلمة يا بنى أو يا حبيبى، وأحيانا بالاثنين معا.. جلست بجوارها وبدأت في صب شايها الذي تفوح منه رائحة نعناع بلدى جميل، ثم جلست تحكى لى عن يومها وكيف تقضيه منذ صلاة الفجر ونهاية بسهراية ما بعد العشاء، لا تهتم كثيرًا بالسياسية أو بالأحوال الاقتصادية حولها طالما بقيت مستورة، تعيش بمفردها منذ أن (سترت) آخر بناتها التي سافرت مع زوجها لإحدى دول الخليج سعيًا وراء الرزق.

لكننى يا بنى عندى كثير من الأبناء والفتيات هنا في الحارة خالتك "أم على" دى بنتى اللى مخلفتهاش، بتحبنى وبتشق عليا كل يوم وكمان بتيجى تقعد معايا هنا على العتبة الحلوة دى زيك كده بالضبط.. والنبى يا ضنايا شكلك كده محتاج تفضفض!

تتحدث لى وكأننى أعرف خالتى أم على أو غيرها، لكنها تبدو كأنها تبصر ما في نفسى وتدفعنى دفعًا للفضفضة معها وإذا بالحديث بيننا يستمر ويتواصل حتى أذان العشاء، فإذا بها تردد وراء المؤذن وتعتذر لى إن كانت قد أطالت على، ثم تدعونى للقاء آخر كلما سمحت لى ظروفى بذلك.. قبلت رأسها وانصرفت على أمل ورجاء بلقاء أحتاجه كثير أكثر من احتياجها لى.. انصرفت وودعتنى ودعت لى بدوام الصحة والستر دون أن تعرف اسمى أو عملى، لكنها حتمًا توقن أننى سكنت قريبًا منها ذات يوم وأنها رأتنى من قبل كثيرا.. مؤكد أنى حقًا سكنت بل غمرتنى السكينة!
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية