رئيس التحرير
عصام كامل

نص عُمر


حادث موجع لا يقل عن الكثير من الحوادث التي نسمع ونقرأ عنها كل يوم، كان عنوانه كالتالي "مصرع وإصابة 8 في سقوط مصعد مستشفى جامعة بنها".. ووفق آخر إعلان عن أعداد الضحايا فقد توفي في هذا الحادث المؤلم سبعة أشخاص كانوا في زيارة لذويهم المرضى، واستقلوا المصعد ويبدو أن الحمولة الزائدة كانت سببا رئيسيا في انهياره من الطابق السابع إلى الأرضي، متحطمًا ومحطمًا أضلع من كانوا فيه.


أذكر حادثا مشابها أيضا في مبنى جامعة الأزهر في مدينة نصر، عندما فصل المصعد رأس موظف أمام زملائه الواقفين في انتظار دورهم لاستقلال المصعد، وتناثرت دماؤه في مشهد لا يقل ضراوة عن أفلام الرعب السينمائي.

هذه الوسائل والآلات جيدة في مساعدة الناس على تحسين حياتهم سواء في خدمة المرضى أو الأصحاء، سواء في مؤسسة حكومية أو في منزل، في أي مكان، لكن مع توافر أحد أهم الشروط وهو المتابعة والفحص الدوري، إن كانت خاضعة لإدارة حكومية مسئولة عن الصيانة وخططها الدورية المنتظمة، أو حتى اتحاد ملاك عقار مسئولون بدورهم عن تحصيل مبالغ شهرية من قاطنيه مقابل الصيانة.

يقولون في الأمثال الشعبية "بيت المهمل يخرب قبل بيت الكافر".

أعلم أنك تذكرت معي الآن فيلم "بين السما والأرض" للراحلة هند رستم، قصة نجيب محفوظ وسيناريو وحوار السيد بدير وصلاح أبو سيف ومن إخراج صلاح أبو سيف وتم إنتاج الفيلم سنة 1959م وتدور أحداثه حول تعطل مصعد كهربائي في إحدى عمارات أحياء القاهرة بركابه بين السماء والأرض، حتى تدخلت العناية الإلهية لإنقاذهم بعد أن فقدوا واحدا منهم نتيجة التكدس.

هل توقعت يوما أن تكون نهايتك داخل مصعد، أو تحت كابينته، أو أن تقضي ساعات معلقا بين السماء والأرض، أمام حائط "سد" توقف المصعد أمامه فجأة، ودون سابق إنذار، تبحث عن الخلاص والنجاة من الاختناق أو احتمالية الانشطار إذا ما ظهرت لك بادرة أمل في أن تدلف من طاقة صغيرة في أسفل باب المصعد!.

"علبة الموت"، ربما كان هو الاسم الأصح والأنسب للأغلب المصاعد في المؤسسات الحكومية، وتحديدا "الجماهيرية" التي يكثر روادها ومستخدموها وتقل بها عوامل الأمان، كصافرة إنذار الوزن الزائد.

وللأسف تأتي تلك الحوادث نتيجة غياب الرقابة على موردي قطع الغيار، وضعف نفوس بعض أصحاب العقارات في توفير مصعد رخيص للسكان، وهو في الحقيقة يكون قد تقاضى مقابله عشرات الألوف منهم، فمهمات ومكونات المصاعد تباع على الأرصفة في بعض الميادين، وللأسف يشتري ملاك العقارات أو شركات المقاولات مكونات المصاعد من الورش والشركات، وتستعين بأشخاص ليسوا مؤهلين للتركيب، بغرض تقليل التكلفة، وتتنازل الكثير من الشركات عن قواعد ومبادئ الجودة ومعايير الأمان والسلامة، في ظل الرغبة المميتة في الربح نظير تقليل النفقات، والتلاعب بالأسعار، وعدم دراية المستهلك، وتكون النتيجة تركيب مصعد دائم الأعطال، وغير آمن، ما يؤدي إلى إزهاق العديد من الأرواح.

وقد ورد بقانون البناء المصري رقم 119 لسنة 2008 أنه يجب أن تتوافر بالمصاعد والسلالم الكهربية المزود بالمبنى الاشتراطات الخاصة بسحب المصاعد أو السلالم إلى مستوى منافذ صرف الأفراد من المبنى آليا، وأن يتوافر بجميع المصاعد الاشتراطات الواردة بالكود المصري للمصاعد.

كما أنه لا بد من التعاقد مع إحدى المنشآت المرخص لها رسميا في مجال إنشاء وتشغيل المصاعد للقيام بأعمال الإصلاح والصيانة الدورية، ويعتبر هذا التعاقد شرطا لتشغيل المصعد، ثم يتم التوجه الحى التابع له العقار بطلب لترخيص مصعد، ويرفق به صورة لترخيص الشركة وملف المواصفات الفنية والرسومات الهندسية لإنشاء المصعد ونسخ من شهادة اختبارات الطراز للمكونات، وشهادة صلاحية تشغيل المصعد بعد تركيبه، وتفيد تحقيق المصعد لمتطلبات الكود المصري للمصاعد، والتزام المنشأة بأعمال الصيانة وفحص واختبار المصعد، وتثبيت لوحة داخل كابينة المصعد في مكان ظاهر مدون بها بيانات المصعد من اسم الشركة المسئولة عن الصيانة.

لكن الواقع يتحدث بغير هذا، فغالبا ما تكون المصاعد المخالفة تم تركيبها بعقارات مخالفة لقانون البناء، ولم تخضع لاشتراطات البناء، ويساعد على هذا غياب رقابة الأحياء وجهاز التفتيش على أعمال البناء، فلا توجد معاينة من الأحياء للمصاعد كل فترة، ولا يتم التأكد من كونه مطابقا للاشتراطات والمواصفات، أو كون الشركة التي قامت بتركيبه مرخصة أم لا.

أقطن في الدور الثامن في إحدى العمارات وفي أحد الأيام عندما رغبنا في تركيب مصعد وكان هذا في العام 2014، قال لي أحد المقاولين نصا: "أنا ممكن أخلص لك الحوار كله بـ30 ألف بس ما دام عندك أبواب راكبة، هاستلقط لك مكنة نص عمر استعمال الخارج ونلم الموضوع ومش هايكلفك".

وبالطبع كسكان صرفنا نظر عن الفكرة برمتها نظرا لعدم عدم مقدرة البعض منا على تحمل تكاليف تركيب مصعد جديد بالكامل، وتخوفنا من تركيب مصعد "نص لبة"، واكتفينا بعدد من الكراسي البلاستيكية في كل دور لراحة كبار السن والمرضى.

"نص عمر" في مصعد به "العمر كله"!

رحماك ربنا بمن لقوا حتفهم منذ أيام، وأنزل غضبك على كل من يتلاعب بأرواح الناس في سبيل المكسب الحرام، أو أي مسئول يتقاعس عن أداء دوره في حماية الأرواح والممتلكات.
الجريدة الرسمية