رئيس التحرير
عصام كامل

مدير مدرسة الروضة.. ترك الفيوم لينال الشهادة في العريش

فيتو

كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، حينما بدأت جولتنا في أروقة معهد ناصر، بحثا عن أي أثر لمصابي حادث مسجد الروضة الإرهابي.. كان الزحام هو سيد الموقف، ووسط محاولاتنا لاستراق السمع لعلنا نصل إلى أي معلومة تقودنا إلى مكان المصابين وذويهم، سمعنا ممرضات يتهامسن فيما بينهن عن أن المستشفى في حالة طوارئ منذ الأمس.


وبسؤال إحداهن جاءتنا المعلومة الأكيدة أن الطابقين الثاني والرابع يضمان مصابي العريش وأسرهم، أسرعنا في الاتجاه نحو الطابق الثاني وفي طريقنا إلى المصعد وجدنا رجلا ملابسه تشبه إلى حد كبير ملابس أهل العريش، ولكن ظننا لم يكن في محله، فلم يكن إلا والد طفل من مصابي السرطان يتلقي علاجه في المعهد، ولكنه كان شاهدا على وصول أحد الأطفال المصابين في الحادث الغادر ليلة أمس.

"فيه طفل مجهول الهوية وصل إمبارح الساعة ٢ وسنه نحو ١٢ سنة موجود فوق في رعاية الأطفال وحالته صعبة"، قادتنا هذه الجملة إلى الدور الخامس حيث يمكث الطفل بين الحياة والموت، فالتقارير الطبية تؤكد إصابته بطلق ناري في رقبته خرجت من فمه وأخري في منطقة الديسك، ونظرا لخطورة حالته فإن الرعاية المركزة المخصصة للأطفال كانت على قدم وساق لمتابعة حالته، وظلت الأوضاع على حالها حتى الواحدة ظهرا حينما ظهر رجلان أمام باب الرعاية يؤكدان أنهما من أقارب هذا الصغير.

اقتربت الساعة من الواحدة، ما زالت الممرضة رشا تطل برأسها بين الحين والآخر بحثًا عن خيط واحد، "قشة" تتعلق بها، فتزيل من فوق عاتقها هم الطفل المجهول الذي حضر مساء الأمس بلا هوية، "الولد واخد رصاصة ورا أذنه وواحدة في وشه، كل شوية يفوق ويشاور على كوباية المياه ويروح في عالم تاني في ثواني"، جميع الممرضات في غرفة الرعاية المركزة الخاصة بالأطفال في الطابق الخامس بالمعهد، لا حديث لهن سوى الطفل مجهول الهوية ذي الوجه الأسمر والملامح الشابة، رغم تسجيله في التقرير الطبي خمس سنوات.

يحضر رجلان في زي قاهري، يحملقان في وجوه الجلوس، يشيران بــ"هيستيريا" نحو غرفة الرعاية، أخيرا يخرج "رجب" عن صمته، "آدم ابن محمد ابن عمي هنا، هو ولد عنده خمس سنين، أكيد هو اللي هنا، حد يطمنا"، ليغيب عن الأعين بضع دقائق ويعود ثانية والخيبة تطل من عينيه، "مش هو طيب آدم فين؟!"، فيخبره أحد الأطباء أن ابنهم مصاب بطلق ناري في قدمه اليمنى وموجود في إحدى غرف الطابق الثاني. فيطمئن بأن آدم ما زال بخير،"الحمد لله كفاية أبوه اللي راح".

محمد عبدالحليم ابن الفيوم
ولم يكن آدم وحده والفتى المجهول الذي يحمل الملامح ذاتها، مما جعل الأمر يختلط على عمه، هما وحدهما بطلا هذا المشهد، فآدم ذو الخمس سنوات الراقد في أحد أجنحة الطابق الثاني، بقدم شاهدة على عمل وحشي لا يفرق بين طفل أو يافع، بات يتيما منذ ساعات بسيطة، يحدثنا رجب ابن عم والد آدم، الأستاذ محمد عبد الحليم، الذي ساقه القدر عام 1989 إلى قرية الروضة بالعريش، قائلا "ابن عمي لا من العريش ولا ليه حد فيها".

كمن يساق إلى موته متجها إلى غرفة الإعدام، كان محمد يساق بحكم الشغف والرغبة في المزيد من المعرفة، وكشف تفاصيل المجتمع السيناوي.

وفي نهاية الثمانينات تعثرت الأحوال به حينما كان يعمل مدرسا بإحدى مدارس محافظة الفيوم، "الوضع كان صعبا وهو كبر في السن ولسه متجوزش"، فيعرض عليه زميله أن يسافر إلى إحدى القرى النائية، لأنه كلما نأى عن القاهرة ازداد دخله، وفرصة أن يعيش في أجواء جديدة وسط المجتمع السيناوي، وفقا لقول رجب، لمعت الفكرة في رأس عبد الحليم وبالفعل سافر ليعمل مديرا لمدرسة الروضة، وهناك تزوج وكون أسرة كادت لولا العناية الإلهية أن تقضي جميعها في حادث الأمس، "ابن عمي عند 3 أولاد وبنت، أصغرهم آدم الله يشفيه".

اعتاد المدير أن يذهب إلى مسجد القرية كل جمعة بصحبة أولاده الثلاثة الذين لا يجتمعون وإياه إلا في هذا اليوم، ويترك الفتاة ووالدتها في المنزل، "محمد يومها جهز هو والعيال وراح، في نص الصلاة ضربوا قنبلة كلهم سابوا الصلاة، والولدين الكبار واحد في ثانوي وواحد في إعدادي، نطوا من الشبابيك، وفضل آدم ماسك في أبوه وإخواته بيحكولي فضلوا ينادوا عليه هو من الصدمة وعلشان سنه صغير، وقف لحد ما اتصاب، وشاف والده وهو قدامه".

في مستشفى بئر العبد كان لرجب موعد آخر مع رحلة البحث التي لا تنتهي، "جرينا أنا وابن عمه وزوجته وأولاده ندور عليه هو وآدم، قالوا لنا آدم نزل مصر، وهو وصل ميت بسبب طلق ناري في الرأس من الخلف".
الجريدة الرسمية