رئيس التحرير
عصام كامل

عزيز صدقى.. في عيد العمال؟!


عزيز صدقى أو المهندس الدكتور عزيز صدقى، أبو الصناعة المصرية، مؤسس وزارة الصناعة، وهو لا يزال شابا في بداية الثلاثينات من عمره في منتصف الخمسينيات، رئيس الوزارة التي جهزت الدولة المصرية لحرب أكتوبر، هو الذي حصل على صفقات السلاح الوحيدة قبل حرب أكتوبر من الروس بعد أن رفض الروس إعطاءها للسادات، وقد اعترف بذلك السادات في كتابه البحث عن الذات، وجاءت في فيلم "أيام السادات"، لسنا في مجال سرد حياته المليئة بالإنجاز الوطنى، وبالرغم من ذلك اختفى د.عزيز صدقى عن الأنظار تماما، لسببين الأول ابتعاده عن العمل العام، والسبب الثانى أن الإعلام بطبيعته يجرى ويلهث وراء من يجلس على كرسى السلطة ويتجاهل دون ذلك مهما كانت قيمته ودرجة عطائه.


نعود إلى صيف عام 2001، والاستعداد لنشاط الموسم الثقافى لمركز رامتان طه حسين2001-2002 قائم على قدم وساق، وأثناء هذا كنت قد اخترت أن يكون النصف الثانى من الموسم عن ثورة 23 يوليو 1952، وذلك بمناسبة مرور نصف قرن عن قيامها، وأثناء محاولات حصر الأسماء التي يمكن الاستفادة منها في هذه المناسبة المهمة التاريخية، التي كان الهدف لها محددا هو تقديم رؤية نقدية علمية لنصف قرن من الزمن لثورة لم تغير وجه الحياة في مصر فقط، بل وفى أفريقيا والعالم.

وأذكر هنا لقاء عابرا مع المؤرخ الراحل د.رؤوف عباس وطرحت عليه فكرة الاحتفاء بمرور نصف قرن على الثورة الأم في المنطقة استحسن الفكرة ولكنه تخوف وحذرنى أننا دائما نقلد بعضنا البعض، وبالتالى ستفاجأ بأن مصر كلها ستحتفل بثورة 23 يوليو، بشكل احتفالى ويضيع وسط هذه الهوجة أي عمل قيم! ووعدته أننا في رامتان طه حسين نختلف كالعادة إن شاء الله.

كلمات المؤرخ د.رؤوف عباس كانت عبئا وتحذيرا من حجم العبء الذي سيتحمله رامتان طه حسين الثقافى، لهذا فكرت في جميع من عاصروا الستينات وربما الخمسينيات، أسماء رجال عملوا مع الزعيم جمال عبدالناصر، وأسماء اختلف معه، واخرين اختلفوا عنه، اليمين الراسمالى -الوفد-واليمين الانتهازى وما أطلق عليهم التيار الإسلامي على مدار نصف قرن، وبلا مبالغة كان مامى ربما أكثر من مائة اسم.

من هذه الأسماء كان د.عبدالعزيز حجازى الاقتصادى الكبير ورئيس وزراء مصر في عهد الرئيس أنور السادات، واتفقت معه أن يكون ضيفا يروى تجربته مع ثورة 23 يوليو خاصة أنه عمل مع الزعيم جمال عبد الناصر، وأثناء الحوار، صمت د.حجازى وقال: لدى شخصية لو أخرجتها عن صمتها وعزلتها ستكون قدمت عملا هائلا، وأضاف: هل تعرف د.عزيز صدقى ؟ قلت: أكيد.. أبو الصناعة المصرية.. رجل من رجال مصر الأفذاذ!

قال د.حجازى: ليتك تحاول معه.. إنه أبعد نفسه تماما عن الأضواء والناس.. حاول معه.. وهذا تليفون مكتبه.. وسيرد عليك مصطفى مدير مكتبه وأبلغه أنك حصلت على تليفونه منى!

الحقيقة لم أصدق نفسى لأننى قد ألتقى بهذا الرجل العظيم، وأن المائة اسم ليس بينهم هذا الرجل العظيم، الذي أحبه لعطائه لمصر، اختلف مع السادات ولم ينطق بحرف واحد ضده، لم يصدر منه كلمة منذ 1974 عندما قرر السادات إلغاء منصب مستشار الرئيس وكان د.عزيز أحدهم، وهناك سبب إنسانى تماما، كنت أرى هذه الشخصية العظيمة تشبه أبى في شموخه وملامح وجهه ونظرته القوية الحادة الصارمة الحاسمة.

في اليوم التالى مباشرة اتصلت، وكان عم مصطفى فعلا الذي رد عليّ وعندما طلبت أتحدث مع د.عزيز، لم يوصلنى بسهولة، فالدكتور عزيز صدقى لا يتلقى تليفونات إلا من عدد محدود هو يعرفهم، أما أنا فلا يعرفنى ولا يسمع عن مركز رامتان طه حسين الثقافى ولا يريد أن يسمع، وبعد إصرار رد على وبصوت حاد أقرب إلى الغلظة سألنى ماذا أريد؟ وعندما أخبرته بفكرتى والتعرف إلى هدفى من مراجعة نصف قرن من عمر ثورة 23 يوليو!

كانت كلماتى لا تجد أدنى اهتمام أو صدى لدى د.عزيز صدقى، وجاءتنى الفكرة أننى سألته عن فاكس أرسل إليه ما قدمناه من قبل والأسماء الكبيرة في جميع المجالات في المجال السياسي د.إسماعيل صبرى عبدالله، والوزير محمد حسن فائق سيكون معنا، وكان معنا د.جلال أمين، وحامد عمار، ود.عبدالقادر القط ونور الشريف ورواد الإذاعة صلاح زكى وطاهر أبوزيد.. إلخ. قبل الفكرة على مضض حتى ينهى المكالمة الثقيلة عليه، وأرسلت الفاكس في نفس اليوم يضم عددا من المواسم الثقافية الناجحة والأسماء الكبيرة اللامعة.

راهن الأصدقاء أنه لن يرد، وإذا رد فسيعتذر عن عدم الحضور وخاصة أنه لا يعرف رامتان وهذا لن يكون أمرا مغريا ليخرج عن عزلته التي يعيش فيها هادئا من سنوات طويلة، ولم يحاول أحد اختراق هذه العزلة.

كانت المفاجأة في اليوم التالى بتليفون من عم مصطفى مدير مكتب د.عزيز صدقى، ويأتى الصوت هذه المرة بنبرة مريحة بدون حدة، ويقول: عايز أقابلك في مكتبى؟ وافقت على الفور، وكان الموعد الحادية عشرة في مكتبه بالزمالك في اليوم التالى. وهنا لابد أن أبرز أمرا مهما، وهو أننى لم يحدث أن ذهبت للقاء أي محاضر حتى يأتى لندوة في رامتان، ومنهم عدد كبير من الوزراء الحاليين والسابقين وكبار مثقفي مصر، ولكن أمام حبى وتقديرى لهذا الرجل وعطائه لمصر لم أفكر ووافقت على الفور.

قبل الموعد بساعة كاملة كنت أنتظر رجلا لم أتخيل في طفولتى أن تمر السنين وأتحدث معه تليفونيا وأجلس أمامه، الرجل الذي كان يسير بجوار الزعيم جمال عبد الناصر ويظهر شامخا، لحظات وأصافحه؟ كانت الأفكار تتزاحم وفى داخلى قلق غير مسبوق، بالرغم من لقائى من قبل برؤساء جمهورية وأمراء ورؤساء وزراء إلا أننى لم أشعر مثلما شعرت في اللحظات التي سبقت لقائى بالدكتور عزيز صدقى.

دخلت مكتبه البسيط جدا، الراقى في أثاثه، وبوجه جاد وبدون ابتسامة، فوجئت أن د.عزيز أحذ يمطرنى بالأسئلة على غير ماتوقعت، عن مركز رامتان طه حسين، وعن تبعيته لمن!؟ وماذا يقدم ؟ وهل فاروق حسنى له علاقة يالضيوف واختيارهم؟ وبعد إجابات غير مختصرة على الإطلاق، شعرت بأن ملامح الوجه الذي يتحدث معى اختلفت، وصوته تغير، وأحسست بأنه بدأ يشعر بالاطمئنان تجاهى، لدرجة الثقة، ودار الحوار عن أول لقاء له مع الرئيس جمال عبدالناصر، عندما تم استدعاؤه، وكانت كلمات عبدالناصر قليلة وواضحة وحاسمة، فقد قال عبدالناصر: سمعت أنك عائد من الولايات المتحدة بعد حصولك على الدكتوراه ونحن نريد الاستفادة من دراستك وعلمك الحديث..!؟

كيف سيادة الرئيس؟ سأل د.عزيز صدقى.. أجاب عبدالناصر: نريد أن نبنى قلاعا صناعية في مصر.. وأريدك تؤسس هيكل لوزارة الصناعة المصرية! وأضاف عبدالناصر: خصصت لك مكتبا وموظفا ليكون سكرتيرا أو مديرا كما تحب أن تسميه !

حجرة واحدة وجلس أمامها موظف شاب. هي كل ما تم توفيره لتأسيس وزارة الصناعة، وبالفعل انطلقنا من هذه الغرفة لكى نقفز إلى عالم التصنيع وأنشأنا آلاف المصانع، وأضاف د.عزيز صدقى: كان عبدالناصر رجلا وطنيا وله رؤية بعيدة النظر وأذكر ونحن في افتتاح أحد المصانع جلس على سلم المصنع الخلفى وقال: مسئوليتنا هي البناء فقط.. وبناء أكبر عدد من المصانع لخلق فرص عمل للشباب، وهناك سبب آخر وهو لا نعرف الذي سيأتى بعدنا ماذا سيفعل؟ لهذا علينا ألا نتوقف عن البناء!

يضيف د.عزيز: كان ذلك بعد نكسة 67 التي كادت أن تطيح بمصر تماما لولا ثقة الشعب في قيادته -جمال عبد الناصر- بعدها كانت سنين من أعظم الفترات في تاريخ مصر الحديث، تحارب العدو الصهيونى على الجبهة في حرب استنزاف شرسة، تحقق فيها كل يوم انتصارات مدوية، وفى نفس الوقت تواصل طريق البناء، نحن لم نتوقف عن بناء المصانع، واستكملنا بناء السد العالى قبل رحيل جمال عبدالناصر.

صمت د.عزيز صدقى.. وبرقت عيناه.. وكأنها تخترق حاجز الزمن لتعود للماضى أكثر من ثلاثين عاما، واعتدل في جلسته. وكدت أرى شعره الفضى عاد إلى سواده وكأنه عاد لشبابه وقال: عندما اكتمل بناء السد العالى في 23 يوليو 70 كان عبدالناصر سعيدا سعادة لا توصف.

لأن السد العالى بالإضافة لفوائده الكثيرة كان المصدر الرئيسى لأكثر من 75% من كهرباء مصر، ولكن ما يحزننى تشويه التاريخ، كنت في أسوان منذ سنوات قليلة، وشاهدت أحد مرشدى السياحة يشرح لفوج من السياح تاريخ بناء السد العالى وفوجئت أنه يؤلف أحداث وتجاوزا عندما قال: إن مصر دفعت الرخيص والغالى من أجل هذا السد من حريتها وقوت شعبها و...و...إلخ.

يعلو صوت د.عزيز صدقى ويقول: صرخت وقمت من مكانى ومن حسن الحظ أننى أجيد أكثر من لغة وكان المرشد يتحدث الإنجليزية وأبعدت المرشد، وشرحت كيف تم بناء هذا المشروع وكيف حاول الغرب منعنا من بنائه، عندما امتنع الغرب عن المساعدة الاتحاد السوفيتى وقف بجوارنا وقدم لنا كل ما نحتاج إليه، وربما المفاجأة في المقابل الذي كنا ندفعه كان البصل ولم يحدث أن السد العالى كان سببا في تقييد حرية مصر أو بسببه جاع الشعب المصرى كما ادعى المرشد الجاهل أو المغرض!

يهدأ د.عزيز صدقى ليقول: أكيد تعرف أن السد العالى كان مدرسة لتربية الكوادر في جميع المجالات، منها استطاعوا الاستفادة في تحطيم خط بارليف في حرب أكتوبر 1973.. ثم أخذ نفسا عميقا وقال: ماذا تريدنى أن أتحدث عنه في ندوة طه حسين.. هو فاروق حسنى سيكون موجودا؟
قلت: تقييم لتجربتك مع ثورة يوليو الزعيم جمال عبدالناصر.. والرئيس السادات!
قال: وحسنى مبارك أيضا!
قلت: وهل لك تجربة مع حسنى مبارك ؟
قال: كمراقب أولا ثم كان لى لقاءان معه.. الأول في المؤتمر الاقتصادى الذي عقده بعد توليه رئاسة مصر مباشرة في أوائل 1982، والثانى في نفس العام كرمتنى الدولة في عيد العمال، ويومها دار حوار بيننا!

قلت: ثم ماذا!؟
قال: لأول مرة أعلنها أننى رفضت تولى رئاسة الوزراء عام 82، وأبلغت الرئيس مبارك أننى لن أستطيع العمل السياسي مرة أخرى.. واعتذرت!
قلت: قبل أن أنسى.. الوزير فاروق حسنى لا يحضر ندواتنا.. ولكن لى سؤال.. لماذا رفضت القيادة السوفييتية الموافقة على صفقة السلاح الوحيدة بعد رحيل جمال عبدالناصر عندما طلبها السادات، ووافقت عليها عندما سافرت اليهم مما ادهش السادات وفوجىء بهذا التصرف؟

قال: باختصار الروس لم يكن يثقون في السادات وهو نفس الأمر للسادات الذي لم يكن يثق فيهم، بعكس ثقتهم في عزيز صدقى، لاننى تعاملت معهم كثيرا بشكل جاد في بناء المصانع!

قلت: معذرة.. أرهقت حضرتك.. ونكمل إن شاء الله في رامتان.

كان لقائى مع د.دعزيز صدقى أشبه بالحلم، واكتمل في ليلة رائعة من أجمل ليالى مركز رامتان طه حسين الثقافى!

وهنا لابد من رصد عدة مواقف التي لا يمكن أن تنسى. بداية وصل د.صدقى قبل موعد بدء الندوة بساعة كاملة، أي قبل أي فرد من جمهور الندوات، مما أدخل القلق لكل من يأتى ويسأل.. هل د.عزيز وصل أم لا؟ الأمر الثانى أبلغه د.عبدالعزيز حجازى أن جمهور الندوات قليل لا يتجاوز عدد الأفراد (15-20) فردا، هذا جعل د.عزيز صدقى في حالة من الهدوء لدرجة أنه قال: على الله شوية الجمهور لا تتركنا نكلم أنفسنا!

وفى الطريق إلى القاعة لاحظ عددا والأفراد تأتى لكى تصافحه، وكاميرات تليفزيون، وكانت المفاجأة الأولى أننا دخلنا القاعة بصعوبة شديدة من الزحام، فقد ازدحمت القاعة أكثر من 140 فردا وكاميرات تليفزيونية، المصرية الوحيدة النيل للأخبار وأبرز القنوات الفضائية الجزيرة القطرية التي جاءت إلى رامتان للمرة الأولى، هذه الصورة أدهشت د.عزيز صدقى ولم يكن مصدقا، وسيطر الصمت عليه، وكان من برنامج الندوة تقديم أغانى الستينيات في البداية، فغنى أطفال ورشة رامتان "دقت ساعة العمل الثورى" و"أحلف بسماها" و"الأرض بتتكلم عربى" و"قلنا هنبنى السد العالى".. وفى مفاجأة مذهلة انهمرت دموع هذه الشخصية الجبارة، بسبب المشاعر التي حركتها فيه هذه الأغانى بصوت الأطفال، وتفاعل الجمهور بشكل رائع، من المواقف المثيرة أثناء الندوة المشاعر.!
من تذكر هذا الرجل العظيم أبو الصناعة المصرية عزيز صدقى.. في عيد العمال!!؟
الجريدة الرسمية