رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (٦)


كانت المحنة الأولى في حياة يوسف الصديق، هي محاولة التخلص منه على يد إخوته، وذلك بإلقائه في غيابة الجب.. وعندما حانت لحظة التنفيذ، تحايل الإخوة على يوسف، فأفهموه أنهم في حاجة إلى الماء، وأنه يمكن أن ينزل إلى قاع البئر كى يملأ دلوا لهم.. وعندما وصل إلى القاع، قاموا بفصل الحبل الذي يصله بهم..


وبرغم صرخات الصغير يوسف واستغاثاته بهم كي ينقذونه، فإنهم تركوه وابتعدوا سريعا عن البئر.. بعد أن فرغ الجناة من فعلتهم الآثمة، واستمرارا لمسلسل الكذب، جاءوا آخر النهار يبكون وينتحبون ودموع التماسيح تنهال من أعينهم كأن الحزن والألم يعتصر قلوبهم، حتى تنطلى الحيلة على أبيهم.. يقول تعالى: "وجاءوا أباهم عشاء يبكون".. وساقوا في ذلك قصة وهمية، لعل الأب يقتنع بما يقولون "يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب"..

إن الكاذب دائما يحاول أن يستدر عطف السامع، فيقول: أنا أعلم يقينا أن قلبك يخالجه شك فيما أقول، حتى ولو كان هو الصدق بعينه، كما حكى القرآن: "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين".. ثم قالوا: لكن الدليل على صدقنا هو هذا الدم الموجود على قميص يوسف "وجاءوا على قميصه بدم كذب".. لقد ذبح الجناة شاة ولطخوا بدمها القميص.. ويبدو أن الأب يعقوب لاحظ أن قميص يوسف سليم وخال من أي تمزق، فأدرك على الفور كذبهم، وأنها مؤامرة حيكت فصولها بليل "بل سولت لكم أنفسكم أمرا"، أي زينت لكم أنفسكم أمرا بشأن يوسف، وليست الحقيقة كما زعمتم.. لكن ليس عندى سوى الصبر الجميل، أي الصبر الذي لا شكوى فيه ولا قنوط معه، وأسأل الله أن يعيننى على تحمل هذا الزعم الكاذب الذي تقولون "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"..

ومن رحمة الله تعالى بيوسف، أنه لم يمض عليه في هذه البئر المنعزلة عن العمران سوى وقت قصير، إذ مرت قافلة قريبا منه، يقول تعالى: "وجاءت سيارة"، ولأنها كانت في حاجة إلى الماء فقد أرسلوا أحدهم ليحضر لها شيئا منه.. والتقت الحاجتان؛ حاجة يوسف لمن ينقذه، وحاجة القافلة إلى الماء، وكلاهما مرتبط بالحياة.. ولما أدلى واردهم دلوه، وجدها يوسف فرصة ثمينة، فتعلق بالحبل، وعندما جذبه الوارد، فوجئ بيوسف متعلقا به، الأمر الذي أثار اندهاشه واستغرابه، لكنه انبهر بجمال يوسف، فقال فرحا: "يا بشرى هذا غلام"، وذهب به إلى جماعته.. وبعد أن تبادلوا الرأى فيما يفعلون به، قرروا إخفاء أمره عن القوافل الأخرى حتى يتمكنوا من بيعه عندما يصلون أرض مصر..

يقول تعالى: "وأسروه بضاعة والله عليم بما يفعلون"، أي لا يخفى عليه أسرارهم.. ثم يقول: "وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين"، أي باعوه بثمن قليل للغاية، إذ لم يكونوا راغبين في الاحتفاظ به، حيث لا توجد منفعة من ورائه، فهو ليس فتى يافعا قويا، ولا هو بفتاة يمكن لمشتريها التلهى أو التسلى بها.. وكانت هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف، وهى محنة الاسترقاق، وهى لا تقل في شدتها عن محنة التعرض للموت، إذ لا قيمة ولا معنى للحياة بدون الحرية.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية