رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (٣)


أراد المولى تعالى بقصة يوسف (عليه السلام)، أن يخفف من حدة معاناة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، بسبب ما يلقونه من مشركى قريش في الفترة المكية.. وقد حملت القصة في بدايتها رسالة مهمة مفادها أنه إذا كان قد نال المؤمنين الكثير من الأذى والابتلاء على يد هؤلاء العتاة، فإن يوسف ناله ما هو أشد ألما ووجعا وقسوة على النفس على يد إخوته، حيث تآمروا عليه وكانوا يفكرون في قتله والتخلص منه.. وحقا ما قاله طرفة بن العبد في معلقته: "وظلم ذوى القربى أشد مضاضة.. على المرء من وقع الحسام المهند".


لقد أوصى النبى يعقوب (عليه السلام) ابنه يوسف ألا يخبر إخوته بقصة الرؤيا التي سمعها منه، حتى لا يتعرض لخطر من جانبهم.. وعلى الرغم من التزام يوسف بذلك، إلا أن هناك شيئا كان يدبر في الخفاء، وصح ما توقعه الأب يعقوب، إذ اجتمع الإخوة بعيدا يتشاورون فيما بينهم عما ينتوون فعله بيوسف، وما هو السبيل الأكثر حسما للتخلص منه، وساقوا في ذلك مبررا فظا وغليظا، يتضمن اتهاما للأب بأنه لا يعدل في مشاعره وعواطفه بين أولاده، وأنه أخطأ في ذلك خطأ بينا، على الرغم من أنهم يمثلون القوة والعزوة التي تعتمد عليها الأسرة في أمور معايشها: "إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ" (يوسف: ٨)..

وبعد سجال طويل، وأخذ ورد، انبرى أحدهم يعرض عليهم فكرة خبيثة، إذ قال: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم" (يوسف: ٩).. ويبدو أن نفوس الإخوة كانت مهيأة لسماع ذلك، إذ لم يعترض أحد منهم أو حتى يبدى دهشته.. وهذه هي مأساة الصوت الواحد في أي مجتمع، صغيرا كان أم كبيرا.. فلو تخيلنا وجود معارضة قوية لوجدنا من يندد أو يستنكر فكرة القتل من أساسها، الأمر الذي يدعونا بإلحاح إلى تعزيز ثقافة الاختلاف، حتى عند أولادنا..

لقد كان صاحب الفكرة يدرك أن هذا الفعل جريمة في حق الأخوة والإنسانية، وأنها تستجلب غضب المولى تبارك وتعالى، لذا قال في نهاية كلمته: "وتكونوا من بعده قوما صالحين".. لكن، الأهم عنده -أو عندهم- كان في تلك المرحلة هو إقصاء أخيهم يوسف من حياتهم بأى ثمن، حتى تخلص لهم -كما صور لهم خيالهم المريض- محبة أبيهم دون أن يشاركهم فيها أحد؛ فيقبل عليهم بكليته.. وهكذا التفكير المنحرف، لا يجنى صاحبه من ورائه سوى الخراب.. كان من الممكن أن يتحاوروا مع أبيهم للوصول إلى حل مشكلتهم، لكن ماذا نصنع مع أناس فقدوا عقولهم، وأخلاقهم وإنسانيتهم؟!

لقد سيطرت فكرة التخلص من يوسف على نفوسهم لدرجة أنهم لم يدركوا أن أي خطر يلحق به سوف يترك أثرا سلبيا على الأب وعلى علاقته بهم، وهو ما حدث فعلا.. غير أن أحدهم -لعله الأخ الذي سبق أن تحدثوا عنه- سارع بعرض اقتراح آخر إنقاذا ليوسف من القتل، فقال: ألقوه في قعر الجب (أي في الجزء الأسفل والمظلم منه)، لعل بعض القوافل المارة بهذا المكان تلتقطه وتذهب به بعيدا عنكم، كما حكى القرآن: "قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" (يوسف: ١٠).. (وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية