رئيس التحرير
عصام كامل

مصيدة الفقر !


على مدار تاريخ مصر الحديث وبعض حقب من التاريخ القديم كان الفقر ولا زال بيت القصيد في كافة المناقشات السياسية والصراعات المحتدمة بين الدولة والشعب، وكان المجتمع دائمًا والقوى السياسية الشعبية فيه تُحَمِل شخصية الحاكم وطريقة إدارته للدولة ومواردها العبء الأكبر في كل هذه الشئون وتلك الشجون.. وكلما اشتد الفقر وطأه كان حلم الخلاص من الحاكم هو الهدف.. وكأن الخلاص من مصيدة الفقر مرهون بالخلاص من الحاكم، فيما عدا الفترات التي انشغلت فيها القيادة السياسية بالحروب ومجابهة الأعداء؛ حيث انشغل الشعب عن إشباع احتياجاته الإنسانية بالعمل على استرداد الكرامة وتحرير الأرض!


وتأصل ذلك التفاني في حب الوطن في شخصية الإنسان المصرى، عبر تاريخه الطويل وأثناء صراعه مع حكامه المتجبرين. فالفقر حميم لعامل اللامساواة وغياب العدل والعدالة الاجتماعية والجنائية. فهو رذيلة اجتماعية تخشاه المجتمعات المعاصرة كافة، وتتحسب له بالتخطيط الجيد للتخلص منه، أو التخفيف من قسوته على الفرد والمجتمع.

ففي عهد مبارك لم يرَ الشعب مبررًا للسنوات العجاف التي لم تنقضِ، ولم يجد تفسيرًا لها في كل مجالات الحياة؛ سوى بفشل يلاحق فشلًا في الإدارة السياسية للبلاد. حيث جاء تقرير الأمم المتحدة الصادر في 2010 ليرسم صورة سيئة للأوضاع الاجتماعية في مصر؛ مؤكدًا أن 10.7 ملايين مصري لا يحصلون على احتياجاتهم من الغذاء وأن 24.8% من المصريين يعيشون بدخل يومي لا يتجاوز 2 دولار، وطبعًا بالقيمة الشرائية للدولار في أمريكا وليس بالقيمة المصرفية له في مصر آنذاك. ولعل هذه المؤشرات المتردية لأوضاع الفقراء كانت بمثابة الطعم الذي رماه المتأمرون لجذب البسطاء إلى ميدان التحرير إبان ثورة يناير!

كما بين التقرير أنه في أواخر عهد مبارك توقف 23.3% من الأطفال عن إتمام دراستهم، وأخطر ما جاء في التقرير أن نسبة الفقر ارتفعت بمعدل 7% في نهاية 2010. ولكي تزداد الصورة قتامة، كشف التقرير عن تفشى وباء الالتهاب الكبدي "سى" إلى حدٍ بلغ في بعض المحافظات 57% !

وهذه الصورة بالغة السواد لم تفلح معها ما أعلنته حكومات ما بعد الثورة بأن هناك إجراءات تشرع الحكومة في اتخاذها؛ للإصلاح الاجتماعي وتنمية الريف المصري الذي بلغ عدد القرى الأكثر فقرًا فيه 3150 قرية، بل ارتفع معدل الفقر في المجتمع المصرى بعد ثورة يناير مباشرة ليصل إلى 17 % إلى أن وصل في نهاية 2016م إلى قرابة 27.8% !

ولعل هذه الأوضاع المتردية كانت هي العوامل الحافزة لقيام ثورة يناير وتأخر فترة الاستقرار في مرحلة ما بعد الثورة.. فرغم أن الثورة كانت هي الأمل المعقود للخلاص من مصيدة الفقر"العنكبوتية" التي تشعبت أسبابها في كافة مؤسسات الدولة، إلا أنها كانت صادمة لكثيرين من عامة الشعب، الذين تعطلت مصالحهم وتوقفت أعمالهم وانحسرت دخولهم في إطار من حالات الاحتكار والاستغلال، التي يمارسها التجار، بتحكمهم في أسعار السلع الأساسية. في غيبة شبه تامة من رقابة الدولة أو عجزها عن التحكم في أسعار السلع، وحماية المستهلك من جشع التجار!

فبعد الثورة تزايدت معدلات الفقر في مصر بصورة ملحوظة، سواء إذا ما قيست بعدد الأسر التي تعيش عند مستوى الفقر أو أقل منه؛ حيث أوضحت مسوح الاستهلاك في أوائل 2012م ارتفاع معدل الفقر الكلي، مع عدم قدرة 44% من السكان على الإنفاق بشكل كافٍ للحصول على الحد الأدنى من الغذاء المناسب. كما أدى إغلاق وتوقف كثير من المصانع والأعمال بسبب كثرة التذمرات العمالية وإحراق كثير من المصانع آنذاك، في إطار من حالات الانفلات الأمني إلى انخفاض متوسط الدخول؛ ومن ثم انخفاض الإنفاق العائلي على الطعام!

وتشير التقارير إلى أنه كلما عجزت الدولة عن تحقيق الاستقرار كلما تقلصت فرص الاستثمار، ومن ثم ارتفعت معدلات الفقر، وتزايدت معدلات الجريمة.. ولعل ذلك هو ما دفع الحكومة إلى التعجيل بظهور قانون تنظيم المظاهرات، حتى يتمكن الاقتصاد المصرى من التعافى، ويصبح قادرًا على تلبية الحد الأدنى على الأقل من احتياجات المواطنين! فلا ننسى أبدًا أنه حينما قامت ثورة يناير ارتفعت معدلات الجريمة في ذلك التوقيت إلى 140 % حسب تقارير وزارة الداخلية. أما منظمة العفو الدولية فقد أشارت إلى أنه حينما قامت الثورة واستعدى الثوار رجال الأمن؛ ارتفعت معدلات الجريمة في الشارع المصرى حتى وصلت 200 % !

والحقيقة أنه لا خلاص من هذه المصيدة "السرطانية" دون خطة حكيمة تتبناها القيادة السياسية الرشيدة، تشترك فيها كافة الأطياف المؤهلة من كل قطاعات الدولة. وتعتمد بشكل أساسى على بنوك الأفكار(ثنك تانك) كآلية لفتح منافذ الإبداع على مصرعيها أمام المبدعين. وتقوم على مبدأ تكافؤ الفرص، فكلٌ يأخذ على قدر عمله، وكلٌ يرتقى على قدر طاقته.. خطة إستراتيجية عادلة، ترفض كل سياسات التهميش والاستبعاد الاجتماعي المتعمد؛ لميول حزبية أو دينية، وأن يكون معيار الاختيار دائمًا هو العمل والكفاءة، وليس المكافأة للتبعية والولاء!

مع العمل على تنظيف كافة الأوعية الإدارية مما علق بها من أفكار تعلقت بسياسات كانت تقر الفساد وتعتبره منهجًا في الحياة والعمل.. وتكرس الرشوة والمحسوبية والوساطة كآلياتٍ فعليةٍ للترقى، والحصول على الحقوق وغير الحقوق!

وليس ذلك وحده كافيا للخروج من مصيدة الفقر أو تجنبها.. ولكن لابد من تغيير العقلية التي تعمل بها الدولة العميقة، التي لا زالت تعمل بنفس آلية ما قبل يناير 2011م.. ولا تدرك حقا خطورة المرحلة وحتمية التغيير.. ووتدرك الحكومات أن مشكلتنا ليست في الاقتصاد فحسب، وإنما أيضًا في الثقافة!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية