رئيس التحرير
عصام كامل

تحرير محل النزاع


من القواعد الأساسية المهمة التي ورثناها عن فقهائنا العظام، قاعدة "تحرير محل النزاع".. والمقصود هو أننا يجب قبل تناول أو مناقشة أي موضوع أن نحدد ماهيته وطبيعته، أن نلقى ضوءا على أهم عناصره (والتفرقة بين ما هو أساسى وما هو فرعى)، وهل سبق تناوله من قبل، وهل له ارتباط بغيره من الموضوعات أم لا، ومدى أهميته وتأثيره، وهكذا..


لكن الذي يحدث في كثير من أمورنا وقضايانا أن تجرى المناقشات على خلاف ذلك.. لذا عادة ما نفشل في التوصل إلى نتيجة مرضية أو مقنعة، بل غالبا ما ينتهى النقاش إلى مزيد من تعقد الموضوع، علاوة على ما يصاحب ذلك من توتر وانفعال وغضب وعصبية، وربما تدابر وقطيعة.. والمتتبع للحوارات المختلفة بين النخبة، وحتى بين أفراد الشعب العاديين، يلاحظ عجبًا...

إذ من الملاحظ في أي اجتماع أو ندوة، أنه لا يوجد تنظيم واضح لإدارتها، ولا تحديد للمعايير التي سوف يتم النقاش على أساسها.. وفى العادة، لا يسبق مناقشة الموضوع إعداد أو تحضير، الأمر الذي يبدو كأننا نضرب في تيه أو نسير في صحراء مترامية، فلا نحن استطعنا الوصول إلى الهدف المأمول، ولا نحن تمكنا من العودة إلى نقطة البدء كى نكرر المحاولة من جديد..

وللأسف، لا يعطى أحدنا لنفسه فرصة التفكير قبل أن يتكلم، فهو يسارع بالرد أو مقاطعة الآخرين قبل إتمام حديثهم، وقبل أن يتدبر أو يعي أو يفهم ما يريدون قوله.. وكثيرا ما يتحدث أحد الحاضرين في جزئية، ربما لا تكون لها أي علاقة بأصل الموضوع، ولا حتى بأحد عناصره الفرعية... هذا فضلا عن الصخب والضجيج الذي يخيم على جو المناقشة، فالكل يتكلم في وقت واحد، والكل يريد أن يغلب وجهة نظره، أو أن يثبت للآخرين أن الحق معه، أو أنه الأكثر تميزا، أو فهما، أو ذكاء.. إلخ. ورحم الله "الشافعى" إذ قال: ما جادلت أحدا في مسألة قط، إلا وكان همى أن أصل إلى الحق، سواء كان على لسانى أو لسان محدثى..

ومن المؤكد أن استمرار الفشل في مناقشاتنا وحواراتنا الدائرة على معظم -إن لم يكن كلا- المستويات، لابد أن يؤدى إلى شيء من الإحباط والقنوط، بل اليأس، الأمر الذي ينعكس سلبًا على وعينا وأدائنا لأعمالنا.. ولا شك أن الأمر مرتبط بشكل وثيق ومباشر بثقافة التنوع والاختلاف، وهى في مجتمعنا متدهورة إلى حد بعيد، ويجب أن نقر ونعترف بذلك... حقًا، نحن في أمس الحاجة إلى أن نعلم أطفالنا كيف يديرون حوارا بين بعضهم.. ليس هذا فقط، ولكن كيف يختلفون أيضًا، ذلك لأن الأصل بين البشر هو الاختلاف، كما جاء في قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم" (هود: ١١٨-١١٩).. هل أقول: نحن في حاجة إلى أطباء نفسيين، وعلماء اجتماع، لتشخيص الداءات التي نعانى منها، وبالتالي وصف العلاج المناسب لها؟
الجريدة الرسمية