رئيس التحرير
عصام كامل

أنا وأبويا وأمي وبيننا «أبو خالد»


أن تكون فردا في عائلة أب ناصرى، فهذا أمر صعب، لن تجد إلا سيرة عبد الناصر، حاضرة في كل حوار، موقف، مناسبة، لن تصطدم عيناك سوى بما كتبه الزعيم، وما كُتب عن الزعيم، وما أنجزه الزعيم.. لن تكون محاصرًا بأى أمور أخرى، سوى أمور الزعيم.


ابن العاشرة كنت، في أقصى قرى الصعيد، كانت البداية، أدركت أن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر رجل مهم، لأنه عندما تأتى سيرته يعلو صوت أبى قليلا، ممزوجًا ببهجة قلما كان لها مكان في محادثاته اليومية.

المشهد لا يزال محفورًا في الذاكرة منذ الطفولة.. الأسماء من الممكن أن تكون متاعب الأيام لعبت دورًا في محو بعضها، لكن من كانوا يتحدثون عنه لا يزال عالقًا في الذاكرة.. إنه جمال عبد الناصر، الذي اتضح فيما بعد – للصبى الذي بدأ يكبر- أنه كان في يوم ما رئيسًا لجمهورية مصر العربية، جمال الذي قال عنه أبى إنه كان، وكان، وكان.. وللحقيقة لم أكترث للأمر كثيرًا وقتها.. تركته يمر بين أصابعى كمرور المياه، لكننى بمرور السنوات اكتشفت أنه ترك أثرًا واضحًا على جدران الذاكرة.

مكتبة أبى.. لم يكن من المعتاد أن تصرف أموالك القليلة على "كُتب"، ولم يكن مقبولا -إلى حد كبير- أن تنصرف عن العالم من أجل "تمقيق" عيناك في صفحات بيضاء ملطخة بالحبر الأسود، ولم يكن جائزًا، أن تترك صبيًا في أعوامه الأولى يعبث بالكتب، لا لشيء سوى أنك لا تريد منه سوى أن يفهم، ولا أي شيء آخر... هذا ما فعله أبى معى.

أدركت معنى الفقرة السابقة، بعدما أصبحت مكان أبى، ووجدتنى أحمل ابنتى ذات الأعوام الثلاثة إلى المكتبات، أتركها تعبث، وتختار الكتب التي تروق لها لساعات قليلة، وسرعان ما تقطع صفحاتها بدعوى اللعب، هذا ما فعله معى أبى، ووجدتنى أفعله دون أي ترتيب مسبق مع صغيرتى.

في الخامسة عشر من عمرى، أدركت قيمة الكتاب، بعدما كنت أمارس فيه هواية "التقطيع"، و"الفرجة ع الصور"، والمنح لأصدقائى دون مقابل، عرفت أن العالم العربى يعانى من أزمة تاريخية "فلسطين المحتلة"، وقرأت "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية" للدكتور رفعت السعيد، ونسخًا لا حصر لها من مجلة "الموقف العربى"، وكتابات أخرى عن القومية والعروبة وحركات التحرر.

باختصار كنت محاصرًا بـ"عبد الناصر" من كل الجهات.. وأذكر أن أول كتاب قررت شراءه كان عنوانه "الناصرية الجديدة"، اسم مؤلفه سقط سهوًا من الذاكرة، لكن الكتاب بغلافه الأزرق لا يزال حاضرًا أمام عينى، قرأته، وكنت وقتها أظن أن الحفظ هو مرادف القراءة، فأصبحت شبيها –إن لم أكن صورة طبق الأصل- "ببغاء" يردد ما قرأ دون أن يفهم، ورغم هذا خرجت من المرحلة تلك بنتيجة واحدة، لا أحب نظام الرئيس الراحل، لكننى أعشق جمال عبد الناصر، أبا وثائرا وإنسانا.. وقعت في محبة هذا الرجل، والتزمت الصمت.

مرت السنوات، عادية، كأي سنوات تمر على طفل عادى في الجنوب، وجدتنى أبتعد قليلا عن قراءة الكتب السياسية، وقعت في أسر نزار قباني، وفاروق جويدة، وتحديدًا قصائد الحب.. الأنثى يومها كانت محور القراءة، لكننى اكتشفت بعد مرور السنوات تلك، أننى أصبت بعقدة "الكمال"، اكتشفت أن المرأة التي تتحدث عنها القصائد لا يمكن أن تكون في عالمنا.. خيالًا كانت هي، ولكننى سمحت لنفسى بالسقوط في "فخ الخيال" لسنوات.

فرغت من الأكاذيب الجميلة التي كان يروجها لى الشعراء، ووجدتنى أذهب إلى طريق الراحل عباس محمود العقاد، قرأت العبقريات، وقلت لصديقى الذي منحنى فرصة اقتنائها منه على سبيل الاستعارة "أحببت سيدنا علي كثيرًا".. كان صديقى طيبًا، حيث قال "كلهم يجب أن نقع في حبهم".. لكننى ما زلت أحب سيدنا علي (كرم الله وجهه)، ليس هذا فحسب، لكن يقين داخلى أصبح يربط بينه و"ناصر".

أبى.. كان كريمًا جدًا معى، سوى "سيرة عبد الناصر" لم يفرض علي أمرًا.. حتى عندما كنت أبتعد عن الطريق، وألعن نظامه وأشجب تصرفاته، وأسفه من قرارات سبق أن اتخذها، وأدعي ما ليس لى به علم على زعيمه المفضل، كان يصمت، وأدركت الآن أنه كان يدرك أننى وقعت في محبة هذا الرجل، فتركنى أعانى من شكوك ولوعة العشاق.

لم يمت عبد الناصر.. مئات، بل آلاف المرات، وجدتنى أمام هذه الحقيقة، فأمى لا تزال تتحدث عن "أبيها"- هكذا تصف عبد الناصر عندما يأتى ذكره- تتحدث عن "النعش الفارغ" الذي دار في كل شوارع بلدتنا البعيدة، ومن ورائه الجميع يبكون أبيهم الذي مات دون أي مقدمات، أمى تقول فيه ما لم يقله أبى يومًا، تبتهج عيناها المتعبتان، عندما تلحظ أن وليدها الثالث أصبح قريب الشبه بأبيه، حتى فى محبته لأبيها، كثيرًا ضبطتنى ممسكًا بنظارة أبى، مرتديًا إياها في ساعات غيابه، مقلدًا جلسته وهو يقرأ، وعندما كبرت قليلا، أضفت طريقته في تدخين السجائر إلى القائمة.. وتعبت أمى من نصيحتى بالتوقف، لكن يبدو أنها كانت تستريح عندما تجدنى شبيهًا بأبى.

الحاج سيد أحمد عبد الدايم، في عامه السابع والستين، هو الآن، ولا يزال يحب "ناصر" ويغفر له، ويدعو له، ويحلف بحياته، ويحكي عنه، ويبكيه في صمت، ويلعن السنوات التي مرت بعد رحيله، والأيام التي لم تكن أصيلة معه، والساعات التي لم تتوقف عقاربها عندما مات "أبو خالد".. أبى لا يزال ناصريًا حتى يومنا هذا، وأمى تستغل "روقان بالى" في إحدى مكالماتنا الهاتفية، وتنصحنى بالتوقف عن التدخين، و"ناصر" لا يزال حاضرًا في المشهد.. بل مسيطرًا عليه بإجماع أئمة عائلتى.
الجريدة الرسمية