رئيس التحرير
عصام كامل

هل أغرقت الحكومة الجنيه ؟!


اتبعت حكومة شريف إسماعيل منذ توليها السلطة سياسات "التفريغ الانفعالي الاستباقي" للمواطنين، بمعنى أنه حينما ترغب الحكومة في إصدار قرار معين، وتتوقع معارضة شديدة من الشعب ضده؛ تقوم بتسريبه لصحف المعارضة قبل إصداره، وحوله يتبارى المحللون السياسيون والاقتصاديون حول تفسير تلك القرارات بين مؤيد ومعارض، حتى يتم التفريغ الوجدانى الكامل أو الإخماد الثورى الاستباقى للشعب.. وبعد نفى القرار من الحكومة واعتباره شائعة وتخوين مروجيه؛ يفاجئ المواطن بأنه أمر واقع، لا يمكن مقاومته، إذ أفرغ الشعب طاقته في التحليل والمناقشة !


هذا الأمر تحديدًا لمسته في قرارات كثيرة أهمها على الإطلاق قرار تعويم الجنيه المصرى، بالإضافة طبعًا إلى القرارات المتعلقة برفع الدعم وزيادة الأسعار.. ولما كان قرار تعويم الجنيه يعد في تصورى قرارًا محوريًا، ومصدرًا مهمًا لمعظم الأزمات التي يعيشها المواطن الآن.. فأردت في هذا المقال مناقشة جملة التناقضات التي حملها هذا القرار المباغت، والذي رغم أننى أراه كان شرًا لابد منه، فإننى على يقين بأن القرارات التي تبعت قرار التعويم قد قلصت حجم استفادة الحكومة منه، وكأنك يا بوزيد ما غزيت!

أولًا أن تخفيض قيمة الجنيه التي أعلنت عنها الحكومة قد تجاوزت الـ 48% التي أقرها البنك المركزى، وكذلك لم تلتزم البنوك بتوحيد سعر الدولا عند 13 جنيها مع هامش حركة 10 % "فوق أو تحت" حسب القرار.. والدليل على ذلك أن الدولار اليوم في البنوك تجاوز الـ 20 جنيهًا.. كما أنها لم تتمكن من ضبط أسعار السلع، والتي ارتفعت بشكل جنونى !

وإذا كانت الفائدة الوحيدة من تعويم الجنيه هي رفع معدلات الاستثمار المحلى والأجنبى، فإن القرارات الحكومية التي صاحبت قرار التعويم لم تكن جاذبة للاستثمار بقدر ما كانت طاردة.. إذ رفعت البنوك سعر الفائدة على المدخرات إلى 20%.. مما دفع بعض المستثمرين إلى إغلاق مصانعهم ومتاجرهم، وتحويل رءوس أموالهم إلى مدخرات بنكية بعائد 20 %، بعيدًا عن مشكلات التراخيص والعمال والضرائب والجمارك والتسويق!

وهنا كان يجب على الحكومة أن تخفض سعر العائد البنكى على المدخرات لإجبار المدخرين على الاستثمار في إطار من تقديم تسهيلات ضريبية وإعفاءات شبه كاملة لكل مستثمر، وأتصور أن النتيجة هنا لصالح المواطن وخزانة الدولة على حد سواء!

ثانيًا أصدر البنك المركزى قرارًا برفع قيمة العائد على شهادات قناة السويس من 12% إلى 15.5% مما كلف خزانة الدولة نحو 2.2 مليار جنيه في توقيت كان الشعب فيه "بيكح جاز" علمًا بأن معظم الذين اشتروا شهادات قناة السويس كان هدفهم الأساسى هو تعضيد موقف الرئيس ومساندته، والمساهمة في مشروع وطنى كبير يحفظ كرامة الوطن، بصرف النظر عن أي عائد شخصى، خاصة أن الدولة صدرته للمواطن كمشروع قومى يناطح "السد العالى"!

وبعيدًا عن كون هذا القرار لا يمت للقرارات المصرفية والاقتصادية بصلة، نظرًا لعدم قانونيته، فلم يشهد التاريخ المصرفي رفعًا لسعر فائدة وديعة مربوطة بتاريخ سابق، فإن أصحاب هذه الشهادات أنفسهم لم يطلبوا من البنوك بأى زيادات على العائد! ومن ثم فإننى أتصور أن هذه الزيادات ليست سوى "منحة" من الحكومة!

وعمومًا فإن الطرق التقليدية التي تتبعها الحكومة تاريخيًا في سد عجز الموازنة قد أثبتت فشلها، ولا يجوز بحالٍ السير قدمًا في هذا الاتجاه، الذي يُحَّمِلُ الفقراء وحدهم تكلفة التنمية وكارثة عجز الموازنة، الذي عادة يحدث نتيجة فشل السياسات الاقتصادية للدولة، وعجزها عن توزيع مواردها بطريقة عادلة!

ويبدو ذلك بوضوح في السياسات الضريبية، التي اتبعتها الدولة مؤخرًا، والتي أدت إلى رفع الأسعار بصورة غير مسبوقة.. فهناك حلول لسد العجز في الموازنة أبسط بكثير من تلك التي تبنتها الحكومة، ودون تحميل الفقراء مزيدًا من الضغوط المادية.. فمثلا إذا كانت الحكومة قد صرحت سابقًا، أن معدلات التهرب الضريبى قد تجاوزت الـ 60%، فمن اللا منطقى أن تفرض الدولة ضرائب إضافية.. إذ أن فرض مزيد من الضرائب معناه مزيد من التهرب الضريبى.. وأتصور أن الحل يكمن في خفض قيمة الضرائب إلى 7% مع رفع معدلات التحصيل ومكافحة التهرب الضريبى..

فخفض الضريبة أولا يساعد على خفض الأسعار ويشجع على السداد.. كما يُمكِنُ للدولةِ أن تقوم بحملة مصالحات ضريبية واسعة؛ إذ أن تحصيل 70% من الضرائب المستحقة يكفى لسد العجز، دون أن يكون رفع قيمة الضرائب هو الحل الأوحد أمام الحكومة لسد العجز وتوفير فاتورة التنمية..

الطريق الآخر الذي أراه أكثر مناسبةً لمواجهة ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه، هو أن تقوم الدولة بحصر كل السلع التي يتم استيرادها من الخارج، ثم تعلن عن تقديم امتيازات ضريبية كبيرة وتخصيص أراضٍ بالمجان وتسهيلات جمركية لمن ينتج سلعة كانت مصر تستوردها ولمن ينتج سلعة قابلة للتصدير.. وخطوة بخطوة يمكن للدولة أن تحقق الاكتفاء الذاتى، ومن ثم تقل معدلات الاستيراد، حتى يصبح الاستيراد مقصورًا فقط على المواد الخام.

وفى هذا السياق على الدولة أن تقوم بزيادة الدخول ورفع رواتب العاملين حتى ترتفع القوة الشرائية للمواطنين فيزداد الطلب على السلع المحلية.. مما يدفع المصانع إلى مضاعفة الإنتاج؛ ومن ثم تقل معدلات البطالة والفقر في آن واحد..

وفى كل الأحوال على الدولة سرعة تشغيل الميلون وحدة إنتاجية صغيرة التي تم توقفها جزئيًا أو كليًا من 2011م وحتى الآن.. وتقديم كل التسهيلات والخدمات اللازمة لإعادة تشغيلها.. خاصة أن تشغيل 70 % فقط منها يوفر للدولة 20 مليار جنيه يمكن مضاعفتها سنويا.. وكذلك على الدولة أن تعيد تشغيل الـ 4600 مصنع التي توقفت أيضًا.. حيث إن تشغيل 4 آلاف مصنع فقط يوفر سنويًا ما يقرب من 16 مليار جنيه.. ولن تحقق هذه الحلول إلا إذا تم اختيار حكومة وطنية تتمتع بالكفاءة العالية، ولديها القدرة الكافية على قراءة عقلية الرئيس والسير مع أفكاره وطموحاته بنفس السرعة..
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية