رئيس التحرير
عصام كامل

البابا والاحتمال


حينما نستبطن الأمور ونحلل المشهد العام منذ أن اعتلى قداسة البابا تواضروس الثانى الكرسى المرقسى وحتى الآن، نجد أن قداسته جاء في فترة تاريخية مهمة وصعبة في آن واحد، حقيقة أمام أعيننا يشهد لها تاريخ الكنيسة بصورة خاصة ويشهد لها تاريخ الوطن بصورة عامة.


اعتلى قداسته الكرسى المرقسى في نوفمبر 2012 في وقت وفى لحظة تاريخية فارقة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، وفى وقت صعب على الكنيسة والوطن جاءت لحظة فارقة ليعطى الله الكنيسة والوطن لرجل محب ومخلص، في وقت كان يحكم مصر جماعة لا تُريد الخير ولا التقدم لهذا الوطن، في ظل أحداث متصارعة ومتضاربة، وجدنا بابا الكنيسة يحتمل الكثير والكثير من أجل الكنيسة والوطن، إلى أن تكاتفت مصر بجميع أطيافها ورجالها المخلصين لتعبر 30 يونيو ولتُخلّص مصر من حُكم الاستعمار الداخلى، والأيديولوجية الإرهابية، ووجدنا قداسة البابا تواضروس يتكاتف مع الوطن في أبرع الصور الإنسانية.

وجدناه يضع أمام عينيه الكنيسة والوطن لأنه أدرك برؤية عميقة أن الكنيسة الوطن الصغير جزء من الوطن الكبير مصر، وإن صح الوطن صحت الكنيسة والعكس صحيح أيضًا، فقد شارك وأسهم قداسة البابا بصورة أساسية في التحام اللحمة الوطنية للشعب المصرى وظهر ذلك جليًّا في 30 يونيو، وأيضًا أمام موقفه عندما حرقت كنائس مصر في الصعيد، وتحمل كل الأنات وأعطى مثال للعطاء والاحتمال والصبر؛ مما دعا الشعب المسيحى يُقدم صورة رائعة للتضحية والبذل من أجل مصر، قدم المسيحون وعلى رأسهم قداسة البابا صورة متجلّية أمام العالم لوعي الأقباط وحرصهم على سلامة الوطن.

وأرى أن هذا الموقف موقف تاريخى كُتب بسطور من ذهب ويدل على القدرة الروحية التي تجلّت لإخراج روح البذل والتضحية في المفهوم المسيحى من قلوب الأقباط تجاه مصر الحبيبة كما رفض قداسته تدخل الخارج بحجة حماية الأقليات، مشددًا على أن الكنيسة القبطية وطنية وترفض التدخل الأجنبى في شئون مصر الداخلية بل كل المواقف العصيبة التي مرت بالكنيسة والأقباط.

كان يدعو قداسته الجميع لإعمال العقل حفاظًا على سلامة الوطن ووحدته؛ فحبه وخوفه على مصر لم ينقطع لحظة؛ بدافع وطني جارف احتمل قداسة البابا تواضروس الكثير والكثير وأعطى لنا مثالًا للاحتمال والتضحية ومن ورائه الشعب الذي حرقت كنائسه، وطوال الوقت يحاول الإرهاب ومن لا يريد السلامة لمصر أن يأخذ من الأقباط ذريعة لانقسام الوطن.

فنجد تلك الممارسات البعيدة عن الإنسانية تقابلها روح البذل والعطاء والصبر والاحتمال والحكمة المتمثلة في القيادة الروحية للكنيسة في شخص قداسة البابا تواضروس الثانى، حمل على عاتقه الإصلاح داخليًّا في الكنيسة، وتحمل الأزمات التي كانت تأخذ من الكنيسة منفذًا لضرب تماسك الوحدة الوطنية ولحمة الشعب المصرى.

ولا سيما الفاجعة التي حدثت الأحد الماضى من تفجير الكنيسة البطرسية في وقت الصلاة.. وقت القداس الإلهى في أنقى لحظة وأقوى علاقة تربط بين الإنسان والله، عمل مُمَنْهج من قبل مجموعات إرهابية لا تعرف لا دين ولا أخلاق ولا تنتمى إلى مفهوم الإنسانية، عمل موجه لإحداث طائفية وانقسام بين الشعب المصرى الذي يدرك ما هو مفهوم الوطن، وبعد لحظات من مذبحة البطرسية قطع قداسة البابا رحلته إلى اليونان على الفور وجاء مسرعًا إلى أبنائه من الكنيسة وإلى الوطن، لحظات تجلت أمام أعيننا بين حزن قلبه وقوة إرادته، بين جروح أبناء كنيسة المسيح وبين حكمته الفائقة واحتماله للألم، وفرحه بباب السماء لهؤلاء الشهداء الأبرار، بين كلماته الحكيمة للحفاظ على الكنيسة والوطن وبين وعظته أثناء جنازة الشهداء والتي خرجت من قلبه ومن فمه لتعطينا روح الاحتمال وروح البذل وروح العطاء.

بل وجدنا أيضًا الرئيس عبد الفتاح السيسي يقرر جنازة رسمية تاريخية على أعناق الجيش وهذا عهد الشعب المصرى بالرئيس الوطنى في المواقف الصعبة... قداسة البابا تواضروس يحتمل في أصعب المواقف من أجل الكنيسة ومن أجل الوطن يحتمل الكثير والكثير، وعلينا أن نتعلم ونحتمل من أجل معانٍ راقية ومن أجل الإنسانية، وأن نتحد بعضنا البعض حول إنسانيتنا وحول محبة الله.. ولنتذكر قول الكتاب المقدس "نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا".
الجريدة الرسمية