رئيس التحرير
عصام كامل

إهانة نجيب محفوظ وماذا بعد !


إن ما يحرك قلمي على كتابة هذا المقال هو غريزة بقاء الوطن.. في وقت بدأت أستشعر الخطر أمام هوجة بربرية لتدمير الثقافة وتكبيل الإبداع بل ضد كل من يعتقد أنه يمتلك القدرة على التفكير والنقد والتحليل.. نعم إن العدوان المتطرف على الثقافة والآداب والحرية الإبداعية التي مثلت قوى مصر الناعمة لعقود وهذا الهجوم البربري أخطر من موجة الغلاء أو سعر الدولار لأن هذا العدوان يعمل على تقزيم دور مصر الثقافي من خلال خطة ممنهجة لتكون تابعة لدول الخليج أيضًا يرسخ سيطرة المال في شراء وبيع الأنفس في معركة هدفها تغيير الهوية المصرية وهدم الدولة وعلى الجانب الآخر ما زال هناك من يؤمن بالهوية المصرية ويعمل على ترسيخها ويعتقد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.


نعم لقد أثار هذا الحدث غريزة البقاء في جوفي أمام العدوان المتطرف من عضو البرلمان -لا اتذكر اسمه- على الأديب العالمي نجيب محفوظ والمطالبة بمحاكمته وقريبًا سيطالبون بمحاكمة طه حسين ويوسف السباعي ولن يتركوا أحمد شوقي أو أم كلثوم ويوسف شاهيــن وكل رموز الإبداع ( قوى مصر الناعمة) والتهمة واحدة ولا تقبل نقاشًا وهي الخروج عن الحدود والخطوط الحمراء..

إنه فكر إرهابي بربري ممنهج لتقزيم دور مصر الثقافي على مر السنوات وقد سبق وتعرض الأديب لمحاولة اغتياله بهدف خنق الإبداع.. إنه فكر ندركه أنه فكر التطرف الديني، ولكن في ثوب جديد والذي عانت منه مصر لعقود وكاد يسقطها في قاع الحروب الأهلية إبان حكم الإخوان، ولكن الفرق أنه كان يصدر من قاع المجتمع واليوم يصدر من القمة.. البرلمان... وهل من ردود أفعال سواء من ذات البرلمان أو وزير الثقافة؟ فلن يرحم التاريخ من سكت ضد هذه الهجمات البربرية لأن تطورها سيعيدنا إلى محاولات تغطية الآثار بالشمع لأنها حرام.

إن إهانة الرمز المصري نجيب محفوظ يأتي في إطار عملية ممنهجة لإهانة المثل العليا لمجتمع بأكمله ومن ثم تدميره معنويًا بإسقاط حضارته وتراثه.. وإن سقط الأديب المبدع من كتبنا الدراسية فمن سيكون البديل أمام أطفالنا أم سنترك الأمور للقنوات الفضائية لتصنع من أولادنا أشباه لمحمد رمضان الأسطورة أو أفلام السبكي ليحتذي أبناؤنا حذوه في طريق الإجرام وأين البرلمان من هذا القيء الفكري! ناهيك عن الحالة المجتمعية التي نواجهها من تمكين أثرياء الثورة في مفاصل الاقتصاد والمجتمع وأين البرلمــان من هذا أو ذاك أو حتى من استغلال الأسعار مـن جانب التجار الطفيليين ضد حقوق الشعب وموجة الغلاء التي يواجهها المواطن.

إن تدمير المجتمعات لا يكون إلا بتمكيـــن من لا يدرك في موقع المسئولية وهكذا سقط الاتحاد السوفيتي ولم يكن عشوائيًا كما كانوا يعتقدون وقتها، ولكن أثبت التاريخ أنها كانت خطة ممنهجة وألا يدرك برلماننا أن التنوع الثقافي لمصر هو قوة الدولة المصرية الناعمة كمعبر بين الشرق والغرب ثقافيًا!

ولكن لا يكون الرد على كلام البرلماني المتطرف إلا بمقولات مأثورة للأديب الراحل نجيب محفوظ: "إذا ظل التخلف في مجتمعاتنا فسيأتي السياح ليتفرجوا علينا بدلا من الآثار، وإن كان التأمل في ذات المقولة اليوم مع ظهور الدواعش المتوحشين يدعونا للبكاء"...

"إن الثورات يديرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الانتهازيون"، وهذه هي أفكار عضو برلمان ثورة ٣٠ يونيو التي قامت ضد الفاشية الدينية ولتأكيد الحريات.

"الذكي يعرف من إجاباته والحكيم من أسئلته"، وأضيف أنا: إن السياسي المجنون من لا يدرك لماذا ثار الناس على من خلفوه (الإخوان).. وأعقب بمقولة أخرى للأديب: "آفة حارتنا النسيان"، وللأسف تتساءلون لماذا توقفت السياحة والإجابة هي الفكر المتطرف المتغلغل الذي يصف الفراعنة بالكفر والسائحين بالانحلال ويتعامل معهم بذات الأسلوب.

ومن فترة وجيزة زار مصر الأديب العالمي باولو كويلو الذي صرح بأن من لم يقرأ لنجيب محفوظ لم يقرأ أدبًا في حياته.. فمن أنتم لتحرموا الحضارة الإنسانية من أحد أهم مبدعيها في الأدب ونفتخر أنه مصري، أم إنك لم تر في كتب الأديب سوى أفلام جنسية! أم أنك ستكرر مشاهد هدم تماثيل بوذا الأثرية!

ولن ننسى أحداث المتطرفين في هدم التماثيل العارية بكليات الفنون الجميلة لأنهم لا يرون فيها إلا العري، وللعلم فإن صياغة الأفلام قد لا تعبر عن كامل رؤية الكاتب لأنها تحتوي معالجة سينمائية، وهذا كله يتم في إطار الإبداع الفني ليس إلا.

هل تعتقد بتقدم دولة ما أو حضارة ما دون الثقافة والإبداع وباستخدامهم كقوة ناعمة، وخاصة أن تاريخ مصر العريق يبرز تقدمها في الثقافة والإبداع والفنون والآداب عن باقي الحضارات الإنسانية أم أن هناك رؤية تقدمية مختلفة لدى عضو البرلمان لا ندركها! وهل هناك خطة لبناء دور مصر الثقافي فتمكن ماسبيرو أن يكون قادرًا على هزيمة قناة الجزيرة! وإن كان عضو البرلمان لا يمتلك الرؤية فليهتم بالأولويات من الأزمات الاقتصادية للمواطن وليترك من يهتمون بالأدب والثقافة والفنون في كوكبهم ولا تستثيرهم وتضيق عليهم حرياتهم فليس لك بهم طاقة.. إنهم براكين خامدة تنأى عن مقارعتك.

وأكررها مرة أخرى إنها مصر يا سادة وليست مصرستان.. إنها مصر منارة الثقافة والإبداع الفني (أدوات الدولة في القوى الناعمة في الشرق الأوسط) وأرى أن هذا الحدث هو أخطر من حدث عابر.. إنه ناقوس خطر لعدوان ضد الحضارة الإنسانية بأكملها وتقزيم تأثير مصر الثقافي كقوة ناعمة لتكون تابعة ثقافيًا لدول الخليج.. وللعلم فإن إثارة غريزة البقاء هي أخطر غريزة يدافع بها الإنسان عن نفسه بشراسة وبكل ما أوتي من قوة ضد عدوه.. وهي ما حرك جموع الشعب المصري صاحب الثقافة العريقة ضد الإخوان عندما قرروا تكبيله بأفكارهم الرجعية المتطرفة وعجلة التاريخ لا تعود للخلف.. فإن العدوان المتطرف ضد نجيب محفوظ هو عدوان على الهوية المصرية المتنوعة ورموز الدولة المصرية وقوتنا الناعمة التي نأمل في استعادتها.. لعن الله الفتنة ومن أيقظها.
الجريدة الرسمية