رئيس التحرير
عصام كامل

مَن الذي أغرَقَ الجنيه.. وما الذي يُنقِذُه؟


عاشت مصر الأسبوع الماضى وحتى اليوم حالة من القلق، بسبب موجات الغلاء التي هَبَت فجأة؛ تاركة خلفها حالة من الضبابية القاتمة، حول مستقبل الفقراء ومحدودى الدخل، متمثلة في عدم شفافية الحكومة في التعامل مع الأزمة!

ولم تنتب هذه الحالة الضبابية الفقراء ومحدودى الدخل وحدهم، بل انتابت أيضًا النُخَب الاقتصادية والتنموية الخبيرة بطبيعة الأزمة. فلم تجتمع الحكومة قبل اتخاذها القرار بتعويم الجنيه، أو تخفيض قيمته برجال التنمية والاقتصاد، ولم تشرح لهم خطتها في الخروج من الأزمة. ولم تحدد لهم المدى الذي تطالب فيه الشعب بالتقشف.. ولم توضح لهم نهاية الطريق الذي تُجبر الشعب على السير فيه. حتى يتمكن هؤلاء الخبراء من خلال احتكاكاتهم بالشارع عبر وسائل الإعلام المختلفة من حشد الشعب حول مشروع الحكومة، وإقناعه بحتمية شراكتها في تحمل المسئولية؛ حتى تخرج مصر من كبوتها. لكن حكوماتنا الحكيمة اعتبرت أن كتمان برنامج الإصلاح الاقتصادى الذي تقدمت به لصندوق النقد الدولى مسألة أمن قومى؛ لا يجوز للخبراء المصريين الاطلاع عليه!

وحقيقة الأمر أننى لا أكون منحازًا للنظام الحالى، حينما أقول بأنه قد تحمل تبعات أربعين أو خمسين عاما من السياسات الاقتصادية الفاشلة، والتي دفعته إلى السير في طريق واحد لا بديل له وهو تعويم الجنيه.. لكننى في نفس الوقت لا أعفيه مطلقًا من المسئولية عن اختياراته الخاطئة للمسئولين في الحكومة، الذين ربما يمتازون بأنهم تكنوقراط من الدرجة الأولى، لكنهم يفتقدون بما لا شك فيه الرؤية الواقعية الثاقبة في الخروج من أزماتهم المتعددة، ولا يملكون بدائل متعددة لتحقيق التنمية.. فعادة ما يحدث الفشل، حينما لا نملك سوى حل واحد للأزمة الواحدة !

لقد أخطأـت الحكومات السابقة خطأ فادحًا؛ حينما سعت لمواجة الفقر بزيادة الدخل وليس بالعمل. وجعلت المواطنين من خلال الدعم المقدم لهم، يوقنون بأنه من حقهم أن يأكلوا حتى وإن لم يعملوا.. فاستحسن الفقراء رفاهية الكسل على مشقة العمل.. وكلما ضاق بهم الحال هددوا تارة بالإضراب إذا كانوا عمالًا وأخرى بالثورة والتمرد إذا كانوا من العاطلين!

وعادة ما كانت الدولة تواجه مشكلاتهم بزيادة الدعم العينى والنقدى المقدم لهم، وليس بزيادة فرص العمل؛ مما دفع الفقراء إلى التواكل والكسل؛ حتى أغلقت المصانع أبوابها.. وتم تسريح العمالة.. فلم تدرك الدولة بأنها حينما واجهت الفقر بزيادة الدخل غير المشروط بالعمل؛ فإنها قد شاركت بشكل مباشر في زيادة معدلات الإفقار والتشرد. وأن المشكلة باتت أكثر تأزما حينما رفعت الحكومة معدلات الأجور في الموازنة السنوية من 45 مليار في عام 2010م إلى 229 مليار في موازنة 2017م. فصار التوظيف في مصر عملًا بدون إنتاج؛ فتراجعت الصادرات وتوحشت الواردات.. وأصبح طعامنا مرهونا بانصياعنا لشروط صندوق النقد الدولى !

ولم تنته رحمة حكومتنا بالفقراء عند هذا الحد.. بل سمحت بأن يزداد المصريون 2.6 مليون طفل سنويًا. دون أي زيادة في معدل النمو الصناعى الذي لم يتجاوز 9 % منذ الستينيات من القرن الماضى وحتى الآن. حتى فرص العمل التي وفرتها للشباب كانت معظمها هامشية. ولم تتبن إستراتيجية للتشغيل تكفل إنتاج سلع مؤهلة للتصدير وجلب العملات الصعبة! ومن ثم فإن أيديولوجية الدولة في مكافحة الفقر تعنى الكفاف للفقراء والكفاية لغير الفقراء.. وتؤدى ولو- بغير قصد- إلى استمرار الفقر والاعتمادية للفقراء، وتأكيد الاستقلالية والاعتماد على الذات لغير الفقراء!

فمن الواضح أن حكوماتنا لديها مفهوم مغلوط عن العمل؛ تسبب بشكل أو بآخر في زيادة حدة أزماتنا الاقتصادية.. فهى بالإضافة إلى كونها تؤمن بحق المواطن في أن يأكل حتى وإن لم يعمل، فهى ترى أن العمل نشاط غير مُلزم، يمارسه الإنسان برغبته الحرة.. ومن ثم فليس المهم لدى الدولة أن ينتج العامل، بل المهم لديها هو أن يحرك عضلاته، ويهدر وقتا من الزمن داخل غرفة مكتوبا عليها مؤسسة أو مصنع لإنتاج سلعة معينة، ربما لا يُقبِل العامل نفسه على شرائها! وهذا المفهوم بالذات كان ولا يزال سببًا كافيًا لانهيار أي دولة اقتصاديًا.. وهذا بعكس الدول التي حققت نجاحات اقتصادية غير مسبوقة. والتي ترى أن المواطن هو كائن اجتماعى عامل.. والعمل لديها هو نشاط مُلزم لكل مواطن عادة ما يمارسه الإنسان مضطرا!

لقد كانت كل هذه الأفكار سببا كافية لأزماتنا الاقتصادية الراهنة. أضف إليها قيام الحكومة بإصدار قرار التعويم دون اتخاذ تدابير حمائية للفئات الأكثر هشاشة، والتي لا تستطيع أن تتعايش مع أزمة الغلاء المفاجئة في ظل دخولها الثابتة. ومن ثم فمن المتوقع أن تتحول الفئات الهشة إلى فئات أكثر هشاشة، والتي ربما تتحول إلى خطر يهدد أي إنجاز اقتصادى يمكن أن تحققه الدولة من قرار التعويم.. كما أنه من المتوقع أن تتآكل الطبقة الوسطى لصالح الطبقات الفقيرة.. فينضم إلى صفوف الفقراء عناصر أكثر وعيًا؛ وقد تكون كفيلة بأن تقود غضبا عارمًا ضد الدولة بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن الفئات الهشة!

ولم يكن أمام الدولة في هذه الحالة سوى أن تستمر في ضلالها القديم، بتشجيع مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية على الاستمرار في تقديم الدعم لهذه الفئات؛ مما يشجعها أكثر على الاستمرار في براثن الفقر والهشاشة!

وفى النهاية لا نستطيع أن ننكر أن هناك دولا كثيرة قامت بتعويم عملتها كالهند والصين واليونان ونيجيريا والأرجنتين والسودان والمغرب وأمريكا اللاتينية.. لكن الدول التي نَجّت من مخاطر التعويم، هي التي كانت تتميز بمعدلات إنتاج عالية، وقدرة أعلى على التصدير، وقدرة أكبر على خفض وارداتها كالهند والصين.. أما الدولة التي كرست حلولها في الحصول على قروض جديدة، لسداد مديونيات قديمة، وتراجعت فيها معدلات الإنتاج والتصنيع والتصدير؛ فقد سقطت في ويلات المجاعة والإفلاس كما حدث الحال في نيجيريا.. وبناءً على هذه المعطيات والتجارب؛ فهل يمكن لمصر أن تنجو من أزمتها؟
الجريدة الرسمية