رئيس التحرير
عصام كامل

على من تعلنون الحرب.. الفقر أم الفقراء؟


في عام 1951م، بدأ "هنرى مايو"، في نشر مقالاته الأسبوعية، عن عمال لندن والفقراء فيها. وتضمنت هذه المقالات عرضا لملاحظاته الدقيقة، عن حياة الباعة الجائلين والداعرات وصغار المجرمين.. وأشار "مايو" في تلك المقالات إلى أن هناك سلالتين من البشر: إحداهما تهتم ببناء الحضارات وتجعل من نفسها قاطرة للتقدم والتنمية.. والثانية عادة ما تفتقر إلى العقيدة الوطنية الثابتة، وتجعل من نفسها أداة لهدم التنمية وإعاقة التقدم.. وتتمحور تحركاتها في الفتك بالسلالة الأولى. وبينما تتميز السلالة الأولى بالملامح الدقيقة والإمكانيات العقلية المتطورة حسب ما قاله مايو؛ فإن السلالة الثانية غالبا ما تتسم بضيق الأفق وبروز الأشداق وسلاطة اللسان، فإذا كانت السلالة الأولى تؤمن بأنه من لا يعمل لا يأكل.. فإن الثانية تُقِر بأنه من لا يعمل؛ يُمكنه أن يتسول أو يثور!


وحسب كلامه أيضا فإن الفقراء الذين تنتمى إليهم السلالة الثانية هم من الصعاليك والمتشردين والمتسولين واللصوص والداعرات والباعة الجائلين. وأن ما يملكونه من ثروات ليست سوى حفنة من السرقات التي نهبوها، من جملة النجاحات والإنجازات المادية التي حققتها السلالة الأولى..

هكذا كتب مايو "متحاملًا" على الفقراء وواصفًا إياهم بأنهم طوائف تكره العمل المنتظم، ولا تدخر شيئا للمستقبل سوى الكراهية للسلالة الأولى.. كما أنهم لا يتحَسَبون كثيرًا لعواقب تصرفاتهم.. وبما أنهم سلالات مختلفة؛ فإنهم يتوجعون ويشعرون نسبيًا بالألم!

ورغم أن أراء مايو كانت فلسفية، إلا أنها تأصلت في سياسات الرعاية الاجتماعية في أوروبا آنذاك، وانعكست بشكلٍ جلي في سياسات تعامل الحكومة مع قضية االفقر، وارتأت أنه لا يمكن مواجهته إلا بإعلان الحرب على الفقراء!

لقد جاءت آراء "مايو" منسجمة تمامًا مع العبارات والأراء الفلسفية الصادمة، التي شاعت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر.. والتي صورت الأغنياء والفقراء آنذاك بأنهما يشكلان "أمتين" لا يوجد بينهما تعامل أو تراحم أو تعاطف.. وتتعمد كل منهما تجاهل قيم ومبادئ وعادات الأخرى، وكذلك طرائق شعورها وتفكيرها. وكأـنهما طائفتان أتيتا من كوكبين مختلفين، وتشكلتا بطريقة مختلفة للتناسل، وتغذيتا بنوعين مختلفين من الطعام. جعلتا لكل منهما ذهنيته المتأصلة في عاداته وقوانينه الخاصة، والتي تختلف مع عادات وقوانين الأخرى، وربما تتصادم معها!

ربما نختلف كثيرا مع هذه الأفكار؛ ليس فقط لأننا لم نلمسها في واقعنا المصرى المعيش.. ولكن أيضا لأنها تخالف المنطق العقلى السليم. فرغم أن هذه الأفكار كانت تصف مُجريات الأمور في دول علمانية. بيد أن هذه الدولة نفسها التي شهدت صراعًا حادًا بين هاتين السلالتين -على حد وصف مايو- قد حققت طفرات تنموية فريدة. سبقت بها مجتمعاتنا التي تخالفها الرأى والعقيدة، وتؤمن بأن البشر جميعًا من سلالة واحدة، خُلقوا من طينة واحدة، وسوف يواجهون في الحياة الأخرة مصائرًا متعددة.. بعكس أفكار مايو التي ترى أن الفقراء والأغنياء لم يُخلقوا من طينة واحدة ولن يواجهوا مصيرا واحد!

إذن القضية ليست في كونهم سلالتين مختلفتين ذهنيا وقيميا وجينيا وسلوكيا كما قال مايو.. وإنما في قناعة كل طائفة بأهمية الحفاظ على الوطن الذي تعيش فيه.. وكذلك في قدرة كل طائفة على التعايش مع الأخرى والتناغم معها.. بالإضافة إلى قدرتها على التَّحَمُل والتحَايَل على أساليب القهر التي تمارسها كل طائفة تجاه الأخرى!

إن الفقراء الذين نقصدهم في هذا المقال ليس أولئك الذين وصفهم "مايو" بأنهم من سلالتين مختلفتين.. وخَوَّل لكل سلالة منهما السلطة الكافية في التعامل مع الأخرى، بل واختزل استمرار التعايش بينهما في قدرة كل منهما على التحايُل على قهر الأخرى.

وإنما الفقراء الذين نقصدهم في هذا المقال هم عامة الشعب، الذين لا يختلفون عن مُلاَّك المال والسلطة سوى في جودة الحياة.. ومن ثم فإن الذي يجب أن نهتم به هو التركيز بشكل كبير على طبيعة الممارسات والتدابير التي تتخذها الدولة في التعامل مع الفقراء.. والتي رغم أنها تبدو بريئة في ظاهرها، بيد أنها تدفع في أحايين كثيرة إلى الإبقاء على الفقراء أو التخلص منهم!

فما تتخذه الدول من تدابير مثلا لسد عجز الموازنة من خلال رفع معدلات الأسعار وفرض مزيد من الضرائب يتنافى مع سياسية الدولة في الحد من الفقر.. فهذه السياسات تحديدا تساهم بوضوح في زيادة أعداد الفقراء. كما تساهم في نفس الوقت في القضاء على الفقراء الذين يعجزون عن اشباع احتياجاتهم الأساسية!

فالفقراء عادة ما يفتقرون إلى القوة بكل معانيها، والتي عادة ما تستمد من مصادر مختلفة، كالوجاهة والسلطة والنفوذ. فهم لا يملكون الموارد ليصبحوا من الوجهاء.. ولا يمكنهم معاقبة الآخرين اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا سياسيا؛ إلا من خلال الانتخابات.. هذا في حالة ما إذا كانت الانتخابات نفسها تتم بطريقة نزيهة!

وفى إطار هذه الظروف الضاغطة التي يمر بها الوطن.. علينا جميعًا أن نتساءل معًا– حكومة وخبراء ومعنيون– حول ما إذا كانت الدولة بالفعل- وعلى مدى تاريخها الطويل- قد تبنت سياسات اجتماعية واقتصادية جادة لمحاربة الفقر. أم أن سياساتها كانت تستهدف في الأساس محاربة الففقراء! بل علينا أن نتساءل بطريقة أكثر عدالة.. هل تواجه الدول مشكلة الفقر بالقضاء على الفقراء؟!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية
عاجل