رئيس التحرير
عصام كامل

مشايخ لا مؤاخذة !


في بداية القرن العشرين ظهرت في مصر حركات متعددة للإصلاح الاجتماعي، تصور بعضها أن الإصلاح لن يتم إلا بتحرير الوطن من مستعمريه، وتصور البعض الآخر أن الاستعمار لن ينتهي إلا بالخلاص من القلة "المُندَسَة" من العملاء الموالين للاستعمار، وفريق آخر تَزَعَمّه الشيخ "محمد عبده" الذي أيقن أن هناك نوعان لـ"الإصلاح" أحدهما "بَرَانِى" يتحدد في الخلاص من المستعمر، والآخر "جُوَانِى" يتمثل في دولة "القيم" والأخلاق.


فمصر لن تتحرر إلا إذا تحرر أبناؤها من سلبيتهم، ولن يتخلصوا من الاستعمار إلا إذا تخلصوا من الأنانية المفرطة، التي كثيرًا ما تقدم مصلحة الذات على صالح الوطن، وهنا حدد محمد عبده بذكاء دور رجال الدين في السياسة؛ من خلال خلق الإيجابية في نفوس الشعب، وبناء وتقوية الأنساق القيمية التي هدمها "المُستَعمِر" في ضمائر الشعوب..ولم يقحم محمد عبده "رجال الدين" في هذه اللعبة القذرة، التي كثيرًا ما تلوث من يمارسها. قناعة منه بمقولة الإمام "الشافعي": "من ارتاد العمل العام ؛ فليتصدق ببعضٍ من عرضه"..!

وحرصًا من الإمام على "أعراض" مَشَايخنا –ل كونهم القدوة والنموذج في بناء الأمة- فقد نأى برجال الدين عن الدخول في دهاليز السياسة.. تلك اللعبة التي لم يختلف في تعريفها فلاسفة الإسلام أمثال الإمامين الفارابي والغزالي عن فلاسفة الغرب أمثال مكيافيلى وجان جاك روسو وتوماس هوبز، الذين عرفوا السياسة بأنها اللعبة القذرة التي تقوم على المكر والدهاء والخديعة!

فإذا كان "مكيافيلى" قد أخذت عليه مقولته المشهورة "الغاية تبرر الوسيلة" فقد أفرزت تجارب وضمائر الشعوب العربية المثل الشعبي "إللى تغلب به إلعب به" مما يؤكد خلو هذه اللعبة من الأخلاق التي يُعَد رجال الدين هم دعاتها. فكيف يدعون إلى "الأخلاق" ويمارسون "الخديعة" حسب مفهوم السياسة؟ وإذا تشدق "الدُعاة" بالأخلاق الدينية في ممارساتهم السياسية؛ فغالبا ما تكون تلك الاستخدامات نذير هدم وتلاعب بمشاعر الشعب!

فليس من الذكاء أن تستخدم أخلاق الفرسان على طاولة اللئام. الأمر الذي يجعلنا نتسأل بحيادية مطلقة: هل ينفع الإسلام أن يتعرض رجاله للطعن في أعراضهم ؟! وهل ينفع الوطن أيضا أن استباحة أعراض رجال الدين فيه؟ والاجابة أن تكمن في إنتاج جيلا قادر على خدمة الوطن.. لا يمكن بناءه بحال من الأحوال دون تحليه بقيم أخلاقية عالية تعزز مكانة الوطن في نفسه كما تعزز مكانة السماء!

فبعد ثورة 25 يناير إنهال علينا جملة من الدعاة الذين كان الشعب قد عَدَهم قدوة ونموذج، وهاهم قد دخلوا عالم السياسة، وتاهوا في دهاليزها وانشغلوا بألاعيبها، واستغلوا قبولهم الدعوي؛ فأسسوا أحزابًا ودشنوا قنواتًا فضائية، وانشغلوا عن بناء القيم و"تجويد" الأخلاق ببناء الأحزاب وإنجاح برامج التوك شو؛ فجعلوا المواطن حائرًا بين دعاة الدين ورجال السياسة، في ظرف تاريخي عصيب تشرذمت فيه قيم الشباب وأخلاق العامة.

ولم يأت مقالى هذا دفاعا عن فئات إنسانية عديده هاجمها مشايخ الفتنة في مرحلة مع بعد ثورة يناير وخاصة إبان حكم الإخوان بدعوى أنهم خالفوا صحيح الدين؛ لا لشيئ سوى لأهم لم يهللوا لحكم الإخوان، ولم يعملوا على دعمه سياسيا.. وصارت قضايا " ازدراء" الأديان "تُهمَة" تطارد كل من سَوَلَت له نفسه معارضة الإخوان، أو العمل على منع تمددهم في العمق المصرى!

وكذلك لم يعتبر مقالى مهاجما لمؤسسة "الأزهر" التي غاب دورها بشكل شبه كامل عن ساحات الدعوة للإسلام الوسطى؛ ففتحت الباب على مصرعيه أمام دعاة التشدد والطامحين في المكاسب السياسية، وكذلك أمام دعاة التحرر؛ حتى تحول المجتمع المصرى إلى قطبين كبيرين متناطحين!

وإنما جاء هذا المقال بشكل اساسى للدفاع عن دولة القيم التي أنهكتها دولة السياسية؛ فأصبت الدين والوطن بضربة قاسية في العُنق.. لا سبيل للتعافى منها سوى بإعادة الاهتمام بدولة القيم، وإعداد رجالها من جديد. بفكر يحاكى احتياجات الشباب وطموحاته، كما يحاكى الواقع المرير الذي تعيشه البلدان الإسلامية من جراء التصادم اليومى بين السياسية ودولة القيم.

ولا سبيل أيضا للخروج من الأزمة سوى بتحييد الدين عن الخلافات السياسية والتركيز على بناء دولة القيم في جميع المراحل التعليم وداخل الأندية ومراكز الشباب والمساجد والكنائس ومواقع العمل.. من خلال تبنى خطاب ثقافية جديد يعبر عن الإسلام الوسطى والمسيحية المعتدلة بصياغة تحاكي الحضارة المصرية القديمة والوسطى، ويلبى متطلبات الحياة الثقافية المعاصرة..

فما أحوج مشايخنا اليوم إلى الأخذ بمنهج الإمام محمد عبده في الإصلاح، ذلك المنهج النموذج الذي تحاكت عنه أباطرة السياسة في الغرب، نموذج أساسه القيم، فلن تنهض مصر إلا بأخلاق أبنائها، وكل ما تعانيه مصر من مجاعة وانفلات أمني وفساد وتحرش وأكوام قمامة؛ هي تعبير عن أزمة "أخلاق" ولن تصلحها السياسة وحدها؛ ولكن بأخلاق الشعب، المنوط بمشايخنا بنائها. فإذا ما تعلم رجال الدين الدرس والتزموا ببناء دولت القيام أو ترميم مع عطب منها فعلينا أن نفتخر بود طاقات نور فعالة في إذكاء الوعى المصرى.. وإذا استمروا في السير في دروب السياسية وصار "خطيب" المسجد ناشط سياسي؛ فلا يمكن أن نستحي من الاعتراف بأنه لدينا "مشايخ" حقًا لكنهم "مشايخ لا مؤاخذة" !
الجريدة الرسمية