رئيس التحرير
عصام كامل

«التريقة» على الجيش.. تطاول أم ماذا؟


عصر يوم 28 يناير 2011، والذي أُطلق عليه «جمعة الغضب»، كان المشهد مهيبًا.. رجال الداخلية يفرون أمام المتظاهرين.. بينما كان هتاف المصريين: «الجيش والشعب إيد واحدة» يزلزل الشوارع والميادين، وهم يستقبلون ضباط، وجنود، وآليات القوات المسلحة التي نزلت لحماية البلاد إثر انسحاب الشرطة من الشوارع، والأقسام، والعديد من المؤسسات الحيوية.


في هذه الأثناء، وبعد انحياز القوات المسلحة إلى الإرادة الشعبية، ارتفعت شعبية الجيش لدى المصريين إلى عنان السماء، وكان مجرد رؤية البدلة «المموهة» أو «الكاكي» كفيلًا ببث الأمن والأمان في نفوسنا.. وكنا نتزاحم لالتقاط الصور التذكارية مع ضباط وجنود ومدرعات ودبابات الجيش، في واحد من المشاهد النادرة التي لن تُمحى من الذاكرة.


ومع جلوس الدكتور محمد مرسي على كرسي السلطة، وسيطرة «الإخوان» على مجلسي الشعب والشورى، إضافة إلى محاولتها السيطرة على مفاصل الدولة، عاد الخوف يتلاعب بقلوب المصريين، فلاذوا بجيشهم لينقذهم من حكم «المرشد»، فاستجاب الجيش، وانحاز مجددًا إلى الإرادة الشعبية في 30 يونيو 2013، وردد معظم المصريين الأغنية الشهيرة: «تسلم الأيادي.. تسلم يا جيش بلادي».


وعندما تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم بدأ يعتمد اعتمادًا كبيرًا على القوات المسلحة لحل العديد من الأزمات التي تعاني منها البلاد، خاصة بعد أن تفشى الفساد في جميع المؤسسات المدنية.. لكن بعد أن أصبح الجيش قاسمًا في الصفقات والمشروعات الكبرى، بدأ الغمز واللمز يطول تلك المؤسسة الوطنية المنضبطة.. وتعالت الأصوات المطالبة بعودة الجيش إلى مهامه الأساسية، والنأي به عن مواطن الشبهات.


ولم تكد تهدأ الانتقادات ضد القوات المسلحة حتى شهدت الأيام الماضية موجة سخرية و«تريقة» على الجيش المصري العظيم؛ بسبب أزمة لبن الأطفال، وتدخله لحلها.. البعض اعتبر هذه السخرية تتوافق مع طبيعة الشخصية المصرية الساخرة من كل شيء، حتى من نفسها.. بينما اعتبرها آخرون سفالة وانحطاطًا؛ باعتبارها تنال من عزيمة القوات المسلحة، وتثبط عزيمة الجنود.


وقبل الخوض في التفاصيل، علينا الإجابة عن تساؤلات عدة: هل التريقة على الجيش لتقصير أفراده في أداء واجبهم المقدس في الزود عن الوطن، أم أنها مرتبطة بحالة سياسية؟ 


ابتداءً، السخرية حالة مصرية متفردة.. فنحن شعب «هلَّاس» بطبعه، يحب الهزار والتنكيت والتريقة على أي شيء.. شعب إذا «حبكت» معه «القافية» فلن يستطيع كتمانها.. لكن ليس معنى ممارسة المواطن هوايته في السخرية حتى من بعض تصرفات أفراد القوات المسلحة أنه يكره الجيش.. بل أكاد أؤكد أن معظم المصريين الذين سخروا من تدخل فرع من أفرع القوات المسلحة لحل أزمة لبن الأطفال، يكنون لجيشنا العظيم كل المحبة والاحترام والتقدير.


وعند الحديث عن «الألش» على الجيش، علينا أن نفرق بين أمرين مهمين: السخرية من العقيدة القتالية لرجال قواتنا المسلحة، والتريقة على تدخل الجيش لحل أزمة تسببت فيها إحدى المؤسسات المدنية في الدولة.


فالجيش بانتصاراته، بل وانكساراته فخرٌ لنا كمصريين.. فهو جزء أصيل من وجداننا.. هو جزء منا ونحن جزء منه.. ولعل التلاحم الشعبي معه في حرب 56 يجسد تلك الملحمة الفريدة.


لكن بعد 11 عامًا من حرب 56 تعرض نفس الجيش لانتقادات حادة، وموجة من السخرية القاتلة عقب نكسة 67، والهزيمة المريرة على يد قوات الاحتلال، لدرجة أن الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم كتب قصيدته اللاذعة التي قال فيها: «الحمد لله خبطنا تحت باطاطنا.. يا محلا راجعة ظباطنا من خط النار».. ولما استنكر البعض على «الفاجومي» شماتته في الجيش والسخرية منه، رد عليهم قائلًا: «وليه تخلينى أشمت فيك من الأساس.. ما ينفعش أربط على الجرح من غير ما أطهره من الدمامل والصديد إللي مالية»!


لكن أمام الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ورغبة الرئيس السيسي في الإنجاز، بدأ يستعين بالقوات المسلحة؛ حتى أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في المعادلة المدنية، وتنفيذ مشروعات اقتصادية وتنموية كبرى.. ورغم أن الجيش حقق إنجازات يشهد بها الجميع، إلا أنه لم يسلم من التلاسن، والسخرية، باعتباره أمسى بديلًا عن الحكومة التي اختارها الرئيس السيسي بإرادته، والتي يجب محاسبتها على تقصيرها.


معنى ذلك أن الجيش قد يدفع ثمن فشل الحكومة المستمر في حل أبسط وأتفه المشكلات والأزمات التي يعاني منها الشعب.


وإذا كان البعض يرى أن السخرية من تدخل القوات المسلحة لحل العديد من الأزمات الحياتية «حقًا مكتسبًا»، إلا أن «التريقة» المنفلتة على الجيش سوف تجعلنا نفقد الثقة في أشياء كنا نعدها من الثوابت القومية، وسوف تؤثر سلبًا على جنودنا البواسل، وربما تُفقد الجيش ظهيره الشعبي المستند عليه.


ما نود التأكيد عليه في النهاية أن استعانة «السيسي» بالجيش لإصلاح ما أفسدته الأنظمة السابقة، أو لتحقيق إنجازات سريعة، هي استعانة المضطر، الذي لم يجد مَنْ يعينه على أداء مهمته، وتنفيذ طموحاته.


وإذا كان البعض يعتبر أن السخرية من الاعتماد على الجيش في كل أزماتنا بمثابة صرخة تحذير، وليست «إهانة»، و«تطاولًا» على «مصنع الرجال».. فإننا في نؤكد أيضًا أن الانجرار في سكة «التريقة» على القوات المسلحة بالأسلوب الفج الذي رأيناه مؤخرًا؛ سوف يقودنا إلى نتيجة واحدة مستقبلًا: «فقدان الثقة في كل ما يحمل النسر».. فلمصلحة مَنْ ذلك؟
حفظ الله مصر وجيشها.
الجريدة الرسمية