رئيس التحرير
عصام كامل

التعليم.. والخطاب الديني المريض !


في عام 1997 أجريت دراسة ميدانية حول دوافع "حِيّازة السِلاح" وكيفية الحد منها.. وأثناء تطبيق استمارة البحث على عينة من المجرمين "الجِنائيين" الذين ارتكبوا جرائمهم باستخدام أسلحة الصغيرة.. وبصرف النظر عن نتيجة البحث "المُوجِعة" والتي كانت بمثابة "ناقوس" يُنذرُ بخطورة تلك الظاهرة على أمن المجتمع ؛ خاصة إذا شعر الحائزون لتلك الأسلحة بضعف قدرة الدول على كبح أهوائهم الطائشة -كما حدث أعقاب ثورتى 25 يناير و30 يونيو- فقد تضمنت استمارة البحث سؤالا حول دوافع القتل؟


وإجابة هذا السؤال بالتحديد، هي التي دفعتنى إلى إجراء حوار بسيط مع ذلك الجنائي القاتل.. وسألته مباشرة لماذا قتلت؟ فأجابنى "السجين القاتل" بلهجة تملأها الثقة والفخر: "كُنتُ أُطَبِقُ دينَ اللهِ".. وحينما سمعت إجابته؛ نحَيِّتُ الاستمارة جانبًا.. ونظرت إليه في عجب، ثم قُلت: أىُ دين طَبَّقتَ يا رجل؟ فأجابنى القاتل بسؤال: ألست بمسلم أنت؟! فقلت له "بلى" مسلم.. لكن دينى لم يأمرنى لا بقتل ولا بسَّب.. فللدين مفهوم "ضيق" وأخر "مُتَسّع"!

وما إن سمع القاتل إجابتى حتى قال: "لكن دينَ الله واحد.. فكيف يكون فيه ضيقٌ ومُتَسّعٌ؟ وكأنه أراد أن يستفهم عن الفارق المفهوم الواسع والضيق للدين.. فقلت له: في المفهوم "الَضِّيق" للدين يكون "الحلال" استثناءً"، وأفضل أنواع الدواء فيه هو "الكَي".. بينما في المفهوم "الواسِع" للدين يكون "الحرام" هو الاستثناء.. وتكون فيه العبادة "فُسحَة" والقول بالمعروف خير من الصدقة التي يتبعها "أذى"!

وبدون أن أدرى عَلا صوتى سائلًا إياه: يا رجل.. كم من بريء مات بهذا "الفهم" على يديك؟ يا أخى.. ما ضَيَّقَ الدين إلا وهَلك.. وما وَسَّعَه إلا ونجا.. يا رجل: ألم تعص الله قط ؟ فأجابنى، بعد أن طأطأ رأسه إلى الأرض: "بلى "فكُليِ مَعَاصي.. ولم أرجو من الله سوى "رحمته".. فقلت له كيف تطلب رحمته وقد ضَيَّقَتها على عِبَاده؟

يا رجل.. "الدينُ واسِعٌ" وكلٌ يأخذ منه على قدر فَهمِه.. وكلٌ يأخذ على قدرِ طاقته.. وكلٌ يُحَصَل منه على قدرِ إيمانه.. اللهُ رحيمٌ يا هذا.. فلماذا لا نُصبحُ رحماءً مِثلُه؟!

وفى حين كنت أستهدف من دراستى أشياء.. لكنى حوار مع هؤلاء "القَتَلَّة " أوصَلني لأشياءٍ أخرى. ربما كانت بالنسبة لى هي الأهم، رغم أنها لم تكن مقصدى ! فقد أدركت تماما أن الإنسان ليس مجرم بطبيعته.. ورغم أن "الفقر" يعد عاملًا أساسيا في معظم الجرائم التي ارتكبت.. لكن يظل "الفَهم" القاصر أو المريض هو الأهم ! وأنه ليس هناك أناس يكرهون الدين، أو يعملون ضده عن عَمّد.. وإنما هناك أناس لديهم "مفاهيم" مختلفة عن الدين.. وربما "تفسيرات" مغايرة لنصوصه.. وأن الأزمة دائما تكمن في ذلك "الفَهم" المريض أو "الإدراك" المجترئ؛ وهما اللذان غالبا يؤديان إلى ممارسة سلوكيات منحرفة؛ لما يحملانه من أفكار قد تتجاوز المنطق الإنسانى، وربما تنتصر عليه!

وذلك بعكس "الفهم السليم" الذي يُبنى على معارفٍ شبه كاملة، ويخرج من إدراك فطرى سليم.. يعترف بوجود الأخر، ويؤمن بالاختلاف، ولا يُنكِر التدينِ على أحد.. ولا يحتكر الفَهم الصحيح للدين على نفسه.. وينطلق من "فرضية" مفادها أن الكُلَ يفهم الدين على طريقته.. ولكن في أحايين كثيرة "تتقاطع" الطرق.. ويصبح على كل فريق إما أن يسمح بمرور الآخر، وإما أن يَدهَسه، أو يطغى عليه!

وحتى لا نتحول إلا عبيد لـ "النص" أو قطعان متناطحة متصارعة، يدهش بعضُنا بعضَ؛ كان لابد لنا من عودة لإعادة النظر في منظومة التعليم. فجملة المشكلات التي تعصف بمجتمعاتنا العربية المعاصرة، لن تتأتّى لها "حلول ناجزة" سوى بإعادة النظر في مناهج التعليم. والعمل الحثيث على إصلاح نظامه التربوي، والاهتمام بفحوى مناهجه الدينية على وجه الخصوص! حتى نتمكن من بناء ذلك الإنسان السويّ، كما نتمكن من صناعة المواطن الصالح الفعّال والمتسامح مع غيره، كما هو متسق مع ذاته الإنسانية!

ولن يتحقق ذلك الهدف إلا إذا "تجاوزنا" مفهوم التفسير إلى الفهم.. وتمكنا من إعادة الفهم كوظيفية غائبة في جميع مناهجنا التعليمية.. وجعلنا "وظيفة" التعليم تكمن في بناء معرفى قادر على فهم مشكلات الواقع.. فهمٌ يُعِين على تقبّل الآخر والابتعاد عن الأحكام الجاهزة التعسفيّة. فالفهم عادة ما يُحِيل إلى التسامح والإيمان بقضيّة الاختلاف المشروعة بين البشر!

وحتى نتمكن من تحقيق "إصلاحات" جادة في إطار مسالة الفهم المتسق لطبيعة الدين.. لابد أن نعترف بدور الدولة في "تأزم " تلك المسألة، و"تقزم" الحلول.. وكيف أنها عجزت بمؤسساتها الدينية عن إيجاد "خطاب ديني" مُتَسِق، بمحددات واضحة للفهم السليم لطبيعة الدين وتعاليمه.. وأنها سمحت لكل ذى قدرة "بلاغية" وتفسير مريض أن يجعل لنفسه منبرا أو برنامجا متلفزًا وربما قناة فضائية؛ يبث من خلالها سمومه عبر التفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية، دون فَهم حقيقى لمغزاها، في إطار قراءة "شفافة" للواقع؛ تسمح بتعايش الدين مع مشكلاته، دون تصادم أو اختزال!

وهنا.. لابد أن نعترف بخطورة ذلك "الفَهم المريض". وأنه هو الذي دفع الأمى والمثقف -سواء- إلى بيع ما يملكون من مصادر القوت؛ من أجل شراء أسلحة لـ" الثأر".. فيشترون الموت مقابل الحياة ! وهو أيضًا ذلك الفهم الذي دفع البعض إلى "الانتحار" في سبيل تفجير مسجد أو معبد أو كنيسة يذكر فيها اسم الله! وهو أيضًا ما قَسَّمَ الأقباط إلى كاثوليك وأرثوذكس وإنجيليين.. وقسم المسلمين إلى سنة وشيعة.. وقسم كل طائقة إلى جماعات متصارعة.. تبدأ من تحريم الأطعمة والتزاوج فيما بينها.. وتنتهى باستباحة الدم!
الجريدة الرسمية