رئيس التحرير
عصام كامل

الدروس التركية


بعيدا عن التحليلات السياسية في قضية الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، وعن الموقف العاطفي لبعض المثقفين والسياسيين من هذه الدولة لحسابات لاعلاقة لها بالمنطق السياسي ذاته، هناك مجموعة مشاهد استوقفتني على هامش ما حدث تكشف عن وعي غير مسبوق من الشعب التركي في التعامل مع هذه الأزمة وهو ما ساهم بنسبة كبيرة في إجهاض الانقلاب خلال ساعات قليلة من حدوثه، ويأتي ذلك أيضا من إدارة سياسية ذكية ومحنكة لرجب طيب أردوغان (مهما اختلف البعض معه) والذي سارع فور حدوث الانقلاب للتواصل مع الشعب عبر قنوات اتصال تليفونية وتليفزيونية محدودة وتحديدا سكاي بي، ومطالبتهم بالنزول للميادين الرئيسية مما أعاق بعض دبابات الانقلاب عن الاتجاه للمباني الرئيسية لفرض سيطرتها، بعد استجابة سريعة للجماهير العريضة. 


وكلنا شاهدنا إحدى المدرعات والناس يصعدون فوقها بعد مطاردتها دون وجل، بينما يهرب قائدها من المكان، كما شاهدنا موقفا آخر للشرطة التركية يكشف عن تركيبة واعية ومدربة لشرطة تعرف دورها جيدا وقد دفعت ثمنا باهظا بشهادة أكثر من 17 من رجالها لكننا شاهدنا ممارسة دورها التي أنشأت من أجله، وإصراراها بالقبض على بعض رجال الجيش المنقلبين بعد أن فرضت نفوذها على الشوارع وهو دور أي جهاز شرطة في دولة مدنية ديمقراطية، أعني الدفاع عن الشرعية وعدم الشعور بالدونية أمام رجال الجيش المعنيين بالدفاع عن الوطن بالدرجة الأولى وليس الانقلاب على الحكم المدني والتجربة الديمقراطية الناجحة.

حتى المساجد كان لها دور في الدفاع عن الديمقراطية التركية بإعلان الآذان والتكبير ودعوة الناس للانتشار بالشوارع لمواجهة الانقلاب وهو ما استجاب له أيضا أطياف الشعب الواعي، قبل أن يصل المشهد إلى ذروة روعته عندما نرى أحزاب المعارضة وقد انضمت فورا لرفض الانقلاب على التجربة الديمقراطية، مدركة أن نجاح المنقلبين يعني اغتيالهم أيضا من الحياة السياسية، فلا شخص يستفيد من انتصار الفاشية حتى لو كانت المعارضة نفسها، وطبعا فإن للأتراك تجربة مريرة مع الانقلابات العسكرية وهو ماجعلهم يقفون صفا واحدا لمواجهة المحاولة الفاشلة.

لقد أرسل الشعب التركي بكل أطيافه رسالة غير مسبوقة للعالم أجمع بقضائه على انقلاب عسكري خلال ساعات من حدوثه بوعيه وتماسكه وإيجابيته ونزوله للشارع لمواجهة طغمة عسكرية مدججة بأعتي الأسلحة، فقد كان سلاحهم أقوى وهو الإرادة القوية والحرص على الدفاع عن حريتهم وديمقراطيهم حيث واجهوا البطش وإطلاق النار في إصرار وعزيمة وكرامة مذهلة وواجهوا الدهس بالدبابات وصدورهم مفتوحة، لذلك يستحق هذا الشعب أن يعيش فخورا مدى حياته بعد أن أثبت أن الرجولة والوطنية ليست مجرد شعارات تستهلك الحناجر في أوقات الراحة، وإنما هي أفعال ومواقف في أوقات الشدة، لتأتي الرسالة الأخيرة من تركيا للعالم بأن أي محاولة للتدخل الخارجي لإعادة رسم خريطة المنطقة لن تنجح، وعلي الاتحاد الأوروبي أن يسعي وفورا لضم هذه الدولة له إذا أراد أن يكون المنتصر لرسالة الديمقراطية في المنطقة كما يزعم طول الوقت.

أما تركيا الدولة والشعب والمدنية فهي الرابح الحقيقي لهذه الجولة، بعد أن ألقي الفاشيون ومن يدعموهم الورقة الأخيرة واحترقوا بنيران الفشل ومحاولات العودة للوراء، فالذي حمي تركيا من مستقبل غامض كان هو التمسك بالحياة المدنية وليس مجرد التمسك بشخص بعينه، عبر شعب واع أراد الحفاظ على مكتسباته التي يستحقها بعد أن انتزعها من قلب الأسد، أما الفاشية فتذهب جفاء!!
الجريدة الرسمية