رئيس التحرير
عصام كامل

قراءة مع صديق


تعرفت على محمد مدني في الغردقة منذ ثلاث سنوات، وهو أصلا من قنا، ولكن الدنيا ألقت به بعيدًا عن أهله وموطنه ليعمل في العلاقات العامة بمحافظة البحر الأحمر، ولعلك ستسألني ومن هو محمد مدني أصلا لتحدثنا عنه؟ هو يا سيدي واحد من المصريين العاديين ممن تراهم في الطريق فلا تعرفهم، ولكنهم في الحقيقة من النابغين أصحاب العقول المبدعة، وقد آمنت في الفترة الأخيرة بالقدرات الفذة للمصري الأصيل في كل المجالات، ولكن المشكلة تكمن في العيون التي لا ترى هذا النبوغ ومن ثم لا تقوم بتوظيفه في مجاله لتستفيد منه البلاد!


ومنذ أن تعرفت على محمد مدني والمراسلات بيننا لا تنقطع، والحوارات لا تنتهي، وفي كل مرة نخرج بشيء جديد، ولكن مهلا، أظنني لم أعرض لك نوعية النبوغ التي يتميز بها محمد مدني! إذًا فلأعد إلى أول المقال لأستدرك ما فاتني فأقول لك إن محمد مدني يعد من النابغين في مجال الخطاب الديني وتجديده، وهو ينطلق في مجال الخطاب الديني من معرفة وثيقة بالقديم، وفهم عميق للفرق والمذاهب الإسلامية، السنية منها والشيعية، ومن نتاج تلك المعرفة وهذا الفهم ينطلق بنا مدني إلى آفاق جديدة من الفهم والمعرفة التي تتناسب مع زمننا وجيلنا، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفهم الأوائل النصوص الدينية على نسق معين وبعد ألف وأربعمائة عام نظل نحن على نفس الفهم القديم، وكأن الزمن لم يتغير وكأن الدنيا كما هي!

وينطلق مدني في مشروعه من مقاصد جديدة للإسلام أعلاها الحرية التي هي أصل من أصول الخليقة، ألم يخلقنا الله أحرارًا، إن شئنا عبدناه وإن شئنا تركناه "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و"لا إكراه في الدين" فكيف فهم الناس أن الدين فيه إجبار وإكراه وسيف! هذا والله شيء عجيب، ولكي نتعرف على محمد مدني بشكل أكثر تفصيلا فإنني سأعرض جانبًا من خطاب كان قد أرسله لي في تأويله لسورة الكوثر، وها هو ما كتبه:

(بسم الله الرحمن الرحيم "إنا أعطيناك الكوثر* فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر".. بغض النظر عن الدخول في تفاسير جدلية لهذه السورة الكريمة إلا أنها إشارة بليغة على ما أكرم الله به نبيه ومصطفاه وخصه به دون غيره في نسق متكامل متناسق، مع ما أكرمه به ووعده إياه في سورة الضحى المتزامنة في النزول مع سورة الكوثر في أوائل العهد النبوي، وتبدأ السورة بحرف التأكيد "إنا" من المولى كدلالة قاطعة على عطيته، ولكن السؤال هنا ماذا أعطاه؟

الكثيرون يرون أنه أعطاه نهرًا في الجنة اسمه الكوثر وهذا المعنى جائز ولكنه بعيد، والحقيقة أن مادة الكوثر تتكون من حروف تدل على الكثرة، ومن معاني الكوثر في اللغة هو الخير الوفير الذي لا ينقطع، وهذا الخير له جوانب عدة مادية وروحية ومعنوية وأدبية وهى ملموسة ومشاهدة في نفسه صلى الله عليه وسلم، ومنها حب الناس، وتمتعه بالصدق، ورجحان العقــل، والثبــات الانفعالي والنفسي، والاستقــرار الأســري، والحياة الكريمــة، وقوة التأثيــر، والحكمة، والحلم، والصبر، والهداية بعد الضلال، والغنى بعد العيلة، والثقة بالنفس، واليقين، وكلها خيرات ونعم تتحدث عن نفسها في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهى وفيــرة كثيرة، لا تنقطع ولا تفتر ولا ينكرها إلا حاقد كاره..

وهذا يستوجب منه أن يصل ربه شكرًا واعترافًا، وهو المقصود بقوله "فصل لربك" أي كن على صلة به بالمعنى اللغوي، واثقًا في ترتيبه، شاكرًا لعطاياه المتواصلة المتدفقة بلا انقطاع، "وانحر" أي فليكن ذلك محط فخرك واعتزازك، وهى تأتي من معانى النحر في اللغة، وهو الشب بالصدر والشموخ في عزة وقوة وإباء، فلست في موقف ضعف، وعليه فكلام بعض المفسرين بأن آية "فصل لربك وانحر" مقصود بها صلاة العيد والأضحية بعدها، واتخاذ ذلك قرينة على النحر بعد الصلاة، فليست هذه السورة محل ذلك، إذ أن سورة الكوثر من أوائل السور في القرآن نزولا في العهد المكي، أما صلاة العيد والنحر وطقوس ومناسك الحج فكانت في حجة الوداع بعد نزول سورة الكوثر بأكثر من عشرين عامًا.
الجريدة الرسمية