رئيس التحرير
عصام كامل

دبلوماسية «السيد الرئيس»: اللعب مع الكبار.. زيارات مكوكية لدول عربية وأفريقية وأوروبية.. وعودة عضوية مصر في البرلمان الأفريقي خطوة جديدة في طريق العودة إلى العمق

الرئيس عبدالفتاح
الرئيس عبدالفتاح السيسي

>> تحركت مصر أوروبيًا حتى صارت في ركن الدفاع عن النفس، فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان
>> انتهاء دعم حركات التحرر دفعه للعب دور الوسيط النزيه



24 شهرًا يحاول خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسي الخروج بمصر من دائرة العزلة التي حاصرتها عربيًا وأفريقيًا ودوليًا، تجاوز بعضها بتقدير مميز، وفى أخرى كانت الأمواج أعلى وأشد حتى كادت أن تبتلع سفينة «الاتحادية» وتنهى مسيرتها.
في الخليج وجدت مصر طوق نجاة «إماراتي- سعودي» للوقوف إلى جوارها في لحظات عاصفة، لشهور اتسمت علاقات القاهرة بالعواصم الخليجية فيها بالقوة والمتانة وفى أوقات أخرى حاول البعض «دق أسافين» توتر العلاقات بين الأطراف الثلاثة.

أفريقيًا.. حاولت «مصر- السيسي» العبور إلى الأمام في ملف علاقاتها بالقارة السمراء وتوقف الاصطدام بالملفين الليبى والإثيوبي، بينما انتزعت «القاهرة» علاقات مميزة أوروبيًا رغم بعض الأزمات التي عكرت صفو العلاقات المصرية الأوروبية، ولم تخرج الإخوان من تفاصيلها.
إمساك العصا من المنتصف سياسة حاولت مصر اتباعها في علاقاتها مع روسيا وأمريكا، وقدمت تنازلا واضحًا لفترة طويلة عن قيادة ملفات الشرق الأوسط في ظل معاناتها الاقتصادية، غير أن الأيام الأخيرة أظهرت بوادر قيادة مصرية جديدة للملف الفلسطيني.

محور «مصر- الإمارات- السعودية»
مع الأيام الأولى لوصول «السيسي» إلى قصر الاتحادية، امتلكت مصر خريطة علاقات واضحة مع الدائرة العربية والإسلامية، ساعده في ذلك توافقه مع العاهل السعودى الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والذي تبنى مشروع 30 يونيو ضد جماعة الإخوان، ومثل عمود الخيمة الدبلوماسية المصرى عربيًا ودوليًا، وكان للقاهرة في هذه التوقيت بوصلة عربية واضحة لم تنحرف عنها، وعكست قبلة الوداع التي طبعها الرئيس على جبين الملك الراحل في قلب مطار القاهرة متانة العلاقات بين القاهرة والرياض، وتفعيل المحور المصرى السعودي.

ومثلت وفاة الملك السعودى السابق ضربة في العمق المصرى العربي، ورغم أن فترة التقارب وتوطيد العلاقات بين القاهرة ودول الخليج، ارتبكت هذه العلاقات لفترة ليست بالقصيرة في ظل ما تم تسريبه عن خلافات نشبت في الكواليس بين المملكة ومصر عقب وصول الملك سلمان بن عبدالعزيز لحكم البلاد.

صحيح أن النظام المصرى لم يكشف عن الغضاضة التي استشعر بها من تحول موقف شقيقة هامة، لكن انحرافات المسار تجلت بقوة في الملف السورى واليمنى والليبى أيضًا، وخلال مرحلة الريبة في العلاقات المصرية العربية دخلت تركيا وقطر على خط الأزمة بقوة للنفخ في الخلافات بين القاهرة والعواصم الخليجية، مستهدفة الرياض تحديدًا كمركز ثقل فاعل في المعادلة الإقليمية.
إلا أن تحركًا سريعًا من الإمارات حال دون إسقاط القاهرة، حيث مثلت أبو ظبى «رمانة ميزان» ونجحت في الحفاظ على جسر التواصل قبل نسفه بلغم الفتنة الكبرى بين سلمان والسيسي، بالإضافة إلى التزام مصر الصمت في هذه الدائرة المهمة لحين الإعلان عن توقيع انتقال جزيرتى «تيران وصنافير» إلى الرياض، إذ ظهرت بعده مؤشرات الانفراجة في الدائرة العربية وعادت مصر إلى ترديد مصطلح «مسافة السكة» الذي صكه السيسي في بداية عهده في إشارة إلى أمن الخليج العربي.

وعلى صعيد أمن الخليج، فضلت القاهرة تجميد ملف العلاقات مع إيران، رغم خطورته وضرورة التعجيل بفتحه اليوم قبل الغد في ظل مصارعة المشروع الفارسى للمشروع العربي، وترقب الجميع لاتفاق نووى بين طهران والغرب من شأنه فتح ممرات دول المنطقة أمام جمهورية الملالى، الأمر الذي يسترعى فتح الملف الشائك وتحديد الركن المناسب سواء للصداقة الفاترة أو الاستعداد لصد الهجوم الدبلوماسى الفارسي.

قنابل موقوتة
حرص مصر على تخطى عقبة الأزمة العربية وعودتها بقوة لمحيطها العربى والإسلامى بدبلوماسية هادئة كان ملاحظًا بقوة حتى وإن تم رفع شعار «ترك الجرح ينزف» في بعض الملفات مثل الأزمة مع قطر التي لا تزال تمثل قنبلة موقوتة في قلب العلاقات «العربية- العربية» دون غلقه بمواجهة حاسمة وبدعم عربى على غرار قمة الرياض في عهد الملك عبدالله، عندما وضع أمن مصر فوق طاولة قادة الخليج واشترط على الدوحة العدول عن مسارها المنحرف قبل تكبيلها بأدوات تأديب عربية شملت عدة إجراءات أقلها تمثل في سحب سفراء الخليج.

التضاد المصرى أيضا مع العرب في ملفى اليمن وسوريا، بات أمرًا لا يحتمل تأجيله أو التعويل على طول أمد الأزمة لحله، وتحدث كثيرون عن ضرورة وضع القاهرة، خلال الفترة المقبلة، الجميع فوق طاولة مواجهة بهدف خلق حلول فاعلة تؤكد على عودتها بقوة إلى دورها الإقليمى وفرض وجهة نظرها في حل الأزمات.

وعلى الصعيد العربي، اختارت مصر نهج طريق حسنى مبارك في التعامل مع دول شمال أفريقيا، ورغم أن الجزائر كانت محطة السيسي الخارجية الأولى لكن لم يطرأ على العلاقات المصرية مع دول المغرب العربى أي جديد، وفضلت القاهرة التعويل على العرب شرقًا متناسية الأشقاء غربًا، إلا ما ندر حول الملف الليبي، وفضلت القاهرة أيضا الميل نحو الشرق الليبى حيث (بنى غازي) متجاهلة الغرب – طرابلس- والذي نجح الغرب في تحويله إلى منطقة خضراء بحكومة جاءت محمولة على ظهر فرقاطة إيطالية.

مواجهة إخوان أوروبا
على استحياء شديد، تحركت مصر أوروبيًا حتى صارت في ركن الدفاع عن النفس، فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وفشلت البعثات الدبلوماسية هناك في مواجهة “لوبيات” جماعة الإخوان المتوغلة في القارة العجوز.
وخلال عامين زار «السيسي» عددًا من العواصم الأوروبية، ويحسب له إصراره على زيارة بريطانيا معقل التنظيم الدولى للإخوان، وهنا حققت مصر نجاحات في العلاقات مع إيطاليا أيضًا، قبل أن تتوتر بفعل فاعل نتيجة مقتل الطالب جوليو ريجيني.

ومثل حضور الرئيس الفرنسى فرانسو هولاند لمراسم افتتاح قناة السويس الجديدة اختراق جديد لجدار الصمت مع الغرب الذي ظل مهاجما لمصر منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي وجماعة الإخوان، وبعدها زيارة السيسي إلى باريس والتي حملت ضوءًا أخضر من قصر الإليزيه لمرور الحليف الجديد، ثم زيارة إسبانيا رغم عدم تحقيقها نتائج ملموسة جاءت في سياق غلق ملف مرسي والإخوان والتأكيد على شرعية النظام الجديد.
كما أن الإصرار على عدم المواجهة في ملف حقوق الإنسان، الذي تحول إلى نقطة ضعف تستغلها المنظمات الحقوقية والكيانات السياسية الغربية للتلويح بعصا العقوبات وتوجيه الانتقادات بين الحين والآخر، يقابلها بيان يعكس حالة من عدم الجدية من الدبلوماسية المصرية دون مواجهة حقيقية.

الزيارات المتبادلة والاستقبال الحافل في العواصم الأوروبية، تمثلت خطورته في التعويل على الشق الاقتصادى والتسليح، لكن تغيّيب السياسة في هذه المنطقة والاكتفاء بالصفقات تكمن خطورته في تحويل القاهرة إلى «مجرد زبون»، ولعل من أبرز أسباب تتويج زيارة بريطانيا بالفشل هو التعويل على الصفقات والتخلى عن الندية نتيجة الدبلوماسية الحذرة في ملفات منطقة الشرق الأوسط، والابتعاد عن دفة القيادة التي ظلت لعقود مسار فخر النظم المصرية، لكن كل ذلك تغير مع اعتراف ضمنى مصرى بعدم رغبة مصر في القيادة.

العودة إلى أفريقيا
من شمال المتوسط إلى جنوبه وفى أعماق القارة السمراء «أفريقيا» بذلت مصر جهودًا ملموسة لاستعادة دورها الريادى في القارة، واعتبرت وكالة التنمية الأفريقية خطوة في اتجاه العودة القوية، هدفت إلى مد القارة بالخبرات المصرية في جميع المجالات بعد قطيعة دامت لأعوام طويلة منذ محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسنى مبارك في العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا» عام 1995.
«السيسي» حرص على التواجد في العمق المصرى من خلال إجراء زيارات رسمية لعدة دول في القارة، وألقى كلمة مصر شخصيًا في قمة الاتحاد الأفريقى نهاية العام الماضي، ثم مثلت عودة عضوية مصر في البرلمان الأفريقى أيضا خطوة جديدة في طريق العودة إلى العمق.

وقبل ذلك أيضا استضافت مدينة شرم الشيخ «منتدى الاستثمار في أفريقيا» لمناقشة سبل تعزيز العلاقات الاستثمارية بين القاهرة وبلدان القارة، وجميعها بالطبع جهودة محمودة لاستعادة المكانة.
والآن تمتلك مصر فرصة هائلة تمكنها من التوغل أفريقيا، خاصة أنه منذ انتهاء دبلوماسية دعم حركات التحرر التي تبناها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، لم تتورط القاهرة في النزاعات المسلحة التي تشهدها دول القارة، الأمر الذي يدفع «السيسي» للعب دور «الوسيط النزيه» لحل الخلافات بين الفرقاء هناك.

ووسط آمال العودة إلى هناك، تبقى إشكالية مياه نهر النيل والأزمة المتعلقة بسد النهضة مع إثيوبيا حجر عثرة في طريق دبلوماسية التنمية التي اتخذتها القاهرة للعودة إلى دول المنبع بقوة.
ويبدو أن الأيام المقبلة ستكون حبلى بالخلافات مع إثيوبيا في هذا الملف الشائك، مع تلويح أديس أبابا الدائم بعدم الانشغال بمخاوف القاهرة على حصة المياه الخاصة بها في نهر النيل، والتلاعب في جميع الاتفاقيات الدبلوماسية التي سعت مصر لإبرامها في هدوء بعيدًا عن تلويحات الماضى باستخدام القوة العسكرية لحسم الملف.

اللعب مع الكبار
بعيدًا عن الدبلوماسية الحذرة التي تنتهجها مصر في الدوائر الثلاث السابقة –العربية والأوروبية والأفريقية، تمثل العلاقات مع الكبار (أمريكا وروسيا) إشكالية كبيرة لـ«الاتحادية»، فالرئيس السيسي منذ أن كان يشغل منصب وزير الدفاع وضح جليا توجهه شرقًا إلى موسكو، ويبدو أنه وضع تصورات كبيرة لشكل التعاون المستقبلى في ظل رغبته الحثيثة لنقل الثقل من واشنطن إلى موسكو.
خلال العامين الماضيين، شهدت العلاقات المصرية الروسية تطورا هائلا حمل رائحة عهد عبدالناصر، وتوجت العلاقات بزيارات متبادلة وصفقة تسليح ضخمة وتوقيع اتقاق محطة الضبعة النووية.

أبناء العم سام
تبقى العلاقات المصرية الأمريكية ملفا ملتهبا ساخنا يعول البعض على تبريده عقب رحيل الرئيس باراك أوباما عن البيت الأبيض في انتظار خليفته لترميم شروخ جدار الأزمة، التي اندلعت منذ عزل مرسي وإجهاض مشروع جماعة الإخوان، ووصف أمريكا 30 يونيو بـ«الانقلاب العسكري»، وما أعقبها من تجميد المساعدات العسكرية، ويرى خبراء السياسة العربية، أنه على مصر التحرك في الدوائر الدولية باتزان خلال الفترة المقبلة لاستعادة تماسكها الدبلوماسي، الذي يعيبه الآن بعض التخبط نتيجة الحالة الاقتصادية المتعثرة.

وربما تكون مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لحل القضية الفلسطينية بداية روشتة العلاج لاستعادة المكانة الإقليمية وإبعاد المنافس التركى الذي سعى خلال الشهور الماضية لاختطاف الدائرة العربية والقضية الفلسطينية، ونجح في تقديم نفسه كشريك لأوروبا في الأزمة السورية، وقدم نفسه بديلا للمشروع المصرى العربى أمام الإدارة الأمريكية.

دبلوماسية حذرة
بمعايير الحسابات من الممكن القول إن حصاد الدبلوماسية المصرية خلال عامين، شهد تطورًا جيدًا في عدة ملفات وانتكاسات في ملفات أخرى، وبعيدًا عن الكوارث التي عطلت التفاهمات الدبلوماسية الدولية بداية من حادث الطائرة الروسية مرورًا بمقتل الطالب الإيطالى جوليو ريجينى، ووصولا إلى سقوط الطائرة المصرية القادمة من فرنسا أمام شواطئ الإسكندرية «صبغة دبلوماسية» لمصر بالحذر وسط عالم مثخن بالصراعات السياسية والإرهابية والطائفية.

"نقلا عن العدد الورقي..."
الجريدة الرسمية